الدكتور محمد شحرور
يطرح الدكتور محمد شحرور في هذا الكتاب قراءة جديدة لمسار التاريخ الإنساني من منظور قرآني — لا لاهوتي ولا أسطوري — تعتمد على مفهوم «قانون السير التاريخي»، أي حركة تطور المجتمعات والدول عبر صراع داخلي بين سلطة المعرفة وسلطة القانون، وبين الأحادية والتعددية.
يؤكد شحرور أن المجتمعات الأحادية المتخلفة — سواء كانت دينية أو أيديولوجية أو عرقية — تحمل في داخلها بذور فنائها، في حين تزدهر المجتمعات التي تنفتح على التعددية، والعلم، والحرية. الكتاب إذًا هو دراسة فكرية في فلسفة التاريخ والمجتمع، تنطلق من القرآن كمرجع حضاري لفهم السنن التاريخية.
المحاور الرئيسية وتحليلها
1. قانون سير التاريخ في التنزيل الحكيم
يستعرض شحرور مفهوم «القرية» و«المدينة» في القرآن كرمزين حضاريين:
القرية تمثل المجتمع المغلق المتخلف، الذي يقوم على العصبية والطاعة العمياء ورفض التعددية.
المدينة ترمز إلى المجتمع المتطور، المنفتح على التعايش والتنوع والإنتاج المعرفي.
يستدل شحرور من آيات مثل:
«وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون» (الأعراف: 4)
على أن «الهلاك» نتيجة طبيعية لانغلاق المجتمع وتوقفه عن التطور.
تحليلًا لذلك، يرى أن قانون السير التاريخي يشبه قانون التطور في الطبيعة: المجتمعات التي تتكيّف وتقبل التعدد تبقى، وتلك التي تنغلق على نفسها تزول. ومن هنا فإن «القرآن» لا يقدم نبوءة بل سنّة اجتماعية.
2. من الأمومة إلى الأبوة إلى المساواة
يقدم المؤلف نموذجًا تاريخيًا لتطور المجتمعات:
مرحلة الأمومة: سيادة الجماعية والمشاركة البدائية.
مرحلة الأبوة: ظهور السلطة الذكورية والملكية الخاصة.
مرحلة المساواة والتعددية: العصر الحديث، حيث تتوازن الحرية والمسؤولية، والمساواة بين الجنسين، والتعدد الثقافي.
يؤكد أن هذه المراحل ليست «قيمية» بل تطورية، وأن حركة التاريخ تسير دائمًا نحو التعدد والمساواة، لا إلى الوراء.
هنا يلتقي فكر شحرور مع بعض مبادئ الفلسفة الهيغلية والتطور الاجتماعي عند ماركس، لكن مع تأصيل قرآني جديد.
3. سلطة المعرفة وسلطة القانون
يفرق شحرور بين سلطتين في المجتمعات الإنسانية:
سلطة القانون: التي تنظم الحياة العامة وتحد من الفوضى.
سلطة المعرفة: التي تبتكر وتحرّك التطور.
ويحذر من أن تغلب سلطة القانون على المعرفة يؤدي إلى الجمود، كما أن سيطرة المعرفة دون ضابط قانوني تفضي إلى الفوضى.
المدن تزدهر حين يتوازن القانون مع الحرية الفكرية، أما القرى فتهلك حين تفرض قانونها الأحادي وتغلق باب الاجتهاد.
4. الشورى والحرية: جدلية السلطة والمجتمع
يناقش المؤلف مفهوم الشورى في القرآن، مؤكدًا أنها ليست بديلاً عن الحرية، بل شكل من أشكالها المؤسسية.
فـ«الشورى» تعني تداول السلطة والمشاركة في القرار، وهي نقيض الحكم المطلق باسم الدين أو النسب أو الحزب.
الحرية، عند شحرور، ليست «هدية إلهية»، بل شرط وجود المجتمع الحي، وهي التي تتيح تحقيق العدالة والمساواة.
من هذا المنطلق، يدعو إلى قراءة معاصرة للتنزيل الحكيم تجعل منه منهجًا للتطور الإنساني لا مجرد نصوصاً فقهية.
5. هلاك الأحادية وازدهار التعددية
يصل شحرور إلى خلاصته المحورية:
أن كل مجتمع أحادي — سواء أيديولوجي أو ديني أو قومي — يحمل أسباب فنائه في داخله.
فالأحادية تعني الإقصاء، والجمود، وتحويل الدين إلى أداة سلطة.
بينما التعددية، القائمة على قبول الآخر واحترام الفرد، هي طريق الازدهار والمدنية.
الخلاصة العامة
يقدّم كتاب «الدولة والمجتمع: هلاك القرى وازدهار المدن» رؤية حضارية جذرية:
أن التاريخ الإنساني محكوم بسُنن قرآنية تحركه نحو التعددية والحرية، وأن المجتمعات التي تنغلق على نفسها في قوالب أيديولوجية أو دينية إنما تزرع بذور هلاكها.
يربط شحرور بين النص والواقع، بين القرآن والتاريخ، ليؤكد أن الدين لا يتعارض مع الحداثة، بل يدعو إليها عبر مفاهيم الشورى، والعدل، والتعددية، والعلم.
الكتاب إذًا مشروعًا فلسفيًا للتفكير في قانون تطور الدول والمجتمعات، وكيف يمكن للعالم العربي أن يخرج من دائرة الأحادية إلى فضاء المدنية.
«التاريخ لا يعود إلى الوراء، والقرآن لا يحنّ إلى الماضي؛ فهلاك القرى قدر الأحادية، وازدهار المدن وعد التعددية.»