لم يسجّل التاريخ يومًا هدنةً بين مدينة صغيرة جدًا جغرافيًا، وبين العالم بأسره.
لكنّ غزّة فعلت.
توقّف العالم عندها، احمرّت شاشاته، وانقسمت ضمائره، واهتزّت قاعات الأمم المتحدة كما لم تهتزّ منذ عقود.
ما أصغرها مساحةً… وما أوسعها أثرًا.
وما أضيقها جغرافيا… وما أرحبها معنى.
في لحظةٍ ما، صارت غزّة الحدث والمكان والرمز معًا. لم تعد مجرّد شريطٍ ساحلي محاصر، بل ميزانًا أخلاقيًا للعالم. كلّ قذيفةٍ سقطت فيها لم تكن صوت حربٍ فحسب، بل سؤالًا موجّهًا إلى ضمير البشرية: من أنتم؟ وإلى أيّ جانبٍ تقفون؟
مدينة تتحدّى العالم
على امتداد التاريخ الحديث، لم تُحاصر مدينة كما حوصرت غزّة، ولم تُترك لتواجه مصيرها كما تُركت.
ومع ذلك، صمدت.
بل تجاوزت الصمود إلى ما هو أدهش: تحويل الضعف إلى لغة، والحصار إلى هوية، والمأساة إلى قضية كونية.
فقد أثبتت أن المعارك الكبرى لا تُقاس بعدد الطائرات ولا بالمساحة، بل بالمعنى الذي تدافع عنه.
لقد وقفت غزّة في مواجهة آلةٍ عسكرية لا تُقهر، لكنها لم ترفع الراية البيضاء. رفعت بدلها كلمة “لا”، تلك الكلمة التي تخيف الطغاة أكثر من أي صاروخ.
وفي كل مرة ظنّ العالم أنها انتهت، خرجت من تحت الركام لتقول: “أنا هنا.”
عندما يصغر العالم
حين تُعلَن هدنة بين غزّة والعالم، يتبدّل المفهوم.
فالعالم، بكل جبروته، بدا صغيرًا أمام عناد مدينةٍ لا تملك إلا إرادتها.
أثبتت غزّة أن الكِبر ليس في القوة ولا في المال، بل في القدرة على البقاء إنسانيًا وسط الوحشية.
وأن الصغار الذين يحلمون بعدالة السماء أعظم شأنًا من الكبار الذين يعبدون توازنات الأرض.
لقد كشفت الحرب الأخيرة أن العالم ليس كما كان يتظاهر.
سقطت الأقنعة، وظهرت ملامح الخذلان، وتعرّت العدالة المزعومة.
لكن غزّة – رغم جراحها – ربحت المعركة الرمزية الكبرى: أن تُبقي الضمير الإنساني حيًا.
غزّة.. كُبرى المدن في المعنى
صحيح أنّها صغيرة في الجغرافيا، لكنّها أكبر من العالم في الدلالة.
فيها يتكثّف الصراع بين الضعف والكرامة، بين البقاء والاستسلام، بين الإنسان والموت.
هي ليست فقط رمزًا لفلسطين، بل مرآة للعصر، تكشف قسوته وتختبر صدق شعاراته.
غزّة، المدينة التي لم تنحنِ، لم تكتب التاريخ بالحبر، بل بالدم والصبر واليقين.
وحين يكتب التاريخ القادم صفحات هذه الأيام، لن يذكر فقط أرقام الضحايا ولا تواريخ الهدن، بل سيكتب جملة واحدة تختصر كل شيء:
“ما أصغر العالم… وما أكبرك يا غزّة.”