في فضاء الأدب العراقي، حيث تتقاطع الذاكرة مع الوجع، والخيال مع الواقع القاسي، يقف الروائي والكاتب شوقي كريم كصوتٍ فريدٍ يكتب من رماد المدن لا من بريقها.
هو أحد أبرز من حملوا هموم الناس في نصوصهم، إذ تشكّل أعماله مرآة للوجع الإنساني والبحث الدائم عن معنى العدالة والحرية.
في هذا الحوار، يفتح شوقي كريم قلبه وقلمه معًا، متحدثًا عن صورته، والكتابة، والحب، والجيل الجديد من الكتّاب، والرقابة، وعلاقته بالتاريخ، بأسلوبه الذي لا يعرف المهادنة، ولا يخشى كشف الجرح العراقي في عمقه الإنساني.
* أهلا ومرحبا بك أستاذ شوقي وأنت الصديق الكاتب والروائي والمحاضر .
ـ أهلا بك أستاذ جمال وشكرا لدعوة الحوار .
* استاذ شوقي وانت الكاتب والروائي الذي كثيرا ما داعبت كلماتك وطروحاتك شغاف قلوب الناس، نرجو ان نتوجه إليك بعدد من الأسئلة نبحر من خلالها في بحر سيرتك الطويلة.. نريد صورة لحضرتك، واضحة وغير تقليدية؟
ـ حين يُطلب من الإنسان أن يقدّم «صورته»، فإن أول ما يخطر في البال هو تلك التي التقطتها الكاميرات أو احتفظت بها ذاكرة الهواتف، لكني أقول: لا صورة لي إلا تلك التي رسمها التعب على وجهي، وصقلها الإيمان بالناس في تضاريس قلبي.
أنا لست وجهًا يمرّ في المهرجانات، ولا ظلّ كاتب ينتظر توقيعًا أو تمجيدًا. أنا صورة العراق حين ينطق صدقًا حتى لو لم يفهمه أحد.
ولعل أجمل ما يشبهني هو ما تلتقطه عين طفل من مدينة حزينة حين يرى نهر الغراف يتألم، أو ما تبوح به نغمة قديمة تنبعث من صدر أمٍّ تبكي على غائب.
هذه هي صورتي الحقيقية؛ صورة إنسانٍ ما زال يرى في الكتابة خلاصًا للوجع، وفي الصدق عزاءً لكل ما تحطّم فينا.
* كم عدد الإصدارات التي طُبعت لك؟
ـ سؤال بسيط في ظاهره، لكنه عميق في جوهره.
فما بين الرواية والمسرح والقصة والدراسات، كتبتُ أكثر من عشرين رواية، وثماني مجاميع قصصية، وما يزيد على ستين مسرحية نُشرت في كتب ودراسات تناولت الأدب والفن، وكتبتُ ما يقارب مئتين وخمسين مسلسلًا إذاعيًا، وخمسة عشر عملًا تلفزيونيًا، إضافة إلى مئات البرامج الثقافية والفكرية.
لكنّ الأرقام لا تعنيني بقدر ما يعنيني الأثر. ما يشغلني دائمًا هو السؤال: ماذا قلنا في كل ما كتبناه؟ وهل استطاعت هذه النصوص أن تفتح نافذة في جدار الصمت؟
كل كتاب أصدرته هو شهادة على مرحلة من الوجع الإنساني، وحوار مفتوح مع الناس الذين ظلّوا يبحثون عن من يتحدث بلسانهم.
لقد لُقّبت من قبل الناس بـ»روائي الشعب» لأنني ذهبت إليهم في قراهم وأزقتهم، لا إلى الصالونات التي تمجّد الكلمات وتنسى معناها.
* كيف ترى نفسك الآن؟ كاتبًا؟ مثقفًا؟ شاهدًا على عصر؟ أم صوتًا منفيًا لم يُرِدْ أن يُروَّض؟
ـ لا أُحبّ التصنيفات التي تُحاصر الكاتب في زاوية محددة. لست مجرد «روائي» أو «مسرحي»، بل إنسان يحاول أن يُعبّر عن ذاته من خلال الآخر.
أنا شاهد على زمنٍ غريبٍ امتلأ بالتناقضات، وكاتب يرى أن وظيفته ليست أن يُدلّل الجرح، بل أن يكشفه كي يراه الناس كما هو.
ربما أكون شاهدًا أكثر مني مثقفًا، لأنني عشت التجربة في تفاصيلها، وكتبت من عمقها، لا من مقاعد المراقبة.
كل ما في نصوصي هو محاولة لالتقاط روح العراق كما هي، بتعبها، وجمالها، وخيباتها، وبإصرارها على البقاء رغم كل شيء.
* لماذا كتبت؟ وهل ترى الكتابة خلاصًا أم لعنة؟
ـ لم أكتب طلبًا للمجد ولا بحثًا عن الخلاص الشخصي، بل كتبت لأنني شعرت بالاختناق.
الكتابة عندي ليست ترفًا ولا هواية، بل ضرورة تشبه التنفس. هي الطريقة الوحيدة التي أقاوم بها الصمت والخذلان.
حين أكتب، أشعر أنني أُفرغ شيئًا من النار المشتعلة في صدري، وأمنحها شكلًا مفهومًا.
الكتابة لعنة جميلة، تُرهقني لكنها تبقيني حيًّا.
هي مسؤولية كبرى، لأنها تجعل الكاتب شاهدًا على ما يحدث حوله، لا مجرّد راصدٍ أو متفرّج.
أكتب كي أقول للعراقي البسيط: لست وحدك. ثمة من يراك، من يسمعك، ومن يكتب عنك كي لا تبتلعك العزلة.
الكتابة عندي ليست طقوسًا أدبية، بل صرخة ضد الصمت، ضد النسيان، وضد كل محاولة لجعلنا ننسى من نحن.
* لمن تكتب؟ وهل تعتقد أن هناك من يسمعك؟
ـ أنا أكتب للإنسان البسيط، للذي يضع الخبز في جيبه والشك في قلبه، للذي لم يقرأ رواية في حياته لكنه يفهمني حين أتكلم عن وجعه.
لا أكتب للنقاد ولا للجوائز، بل للذين يشبهونني في خوفهم، وفي أحلامهم الصغيرة.
وأؤمن أن هناك من يسمع، حتى لو لم يملك القدرة على الرد.
أحيانًا يصلني صدى هذا السمع في عيون رجلٍ من الريف، أو في دمعة امرأةٍ عجوز تقول لي: قرأتك وشعرت أنك تكتب عن ابني.
هذا يكفيني.
لقد وصلتُ إلى القرى المنسية والمدن الصغيرة، ليس عبر الإعلانات، بل عبر صدق الحكايات التي تشبه الناس.
من أجل هؤلاء أكتب، ولأجلهم أواصل مهما تغيّر الزمن وانشغل المثقفون بضجيج الجوائز والمجاملات.
* ما علاقتك بالتاريخ السياسي؟ هل هو مجرد خلفية لأعمالك أم مركز وجودك السردي؟
ـ التاريخ في كتاباتي ليس خلفية ولا ديكورًا يُجمّل النص. إنه عصب الحكاية، وواحد من أهم مفاتيح فهم الإنسان العراقي.
حين أتناول التاريخ، فإنني لا أبحث عن الوقائع، بل عن المعنى الذي يتخفّى خلفها.
ما يهمّني هو الإنسان الذي عاش الحدث لا الزعيم الذي صنعه، الضحية لا الحاكم.
أعيد قراءة الماضي لا لأُؤرّخ، بل لأفهم الحاضر من خلاله.
كل شخصية تاريخية في رواياتي تتحوّل إلى مرآة أخلاقية نُسائل عبرها أنفسنا: كيف تغيّرنا؟ ومتى فقدنا المعنى؟
التاريخ بالنسبة لي ذاكرة متحركة، لا أرشيف جامد.
ولذلك، كل رواية أكتبها تحمل سؤالًا وجوديًا عن العلاقة بين السلطة والضمير، بين القوة والعدالة، بين الذاكرة والنسيان.
* ما موقفك من الرقابة؟ هل خضعت لها أو واجهتها؟
ـ الرقابة ليست فقط ما تفرضه الدولة على النصوص، بل ما يتسلل إلى داخل الكاتب نفسه فيجعله يخاف من قول الحقيقة.
واجهتُ الرقابة بأشكال مختلفة، وكنت أتعامل معها كما يتعامل الرسام مع الظلّ: أحوّله إلى جزء من الصورة بدل أن أهرب منه.
أحيانًا كنت أكتب فوقها وتحتها وحولها، لكنني لم أكتب أبدًا من داخلها.
الرقابة الكبرى في رأيي ليست تلك التي تمنع كتابًا، بل تلك التي يصنعها المجتمع حين يفرض على الكاتب أن يرضي أذواقه، أو يخضع لمعاييره.
أكتب بحرية كاملة، ولو مُنعت كتبي فهذا يعني أنني قلت ما كان يجب أن يُقال.
النص الحقيقي لا يُولد في بيئة مطمئنة، بل في صراع دائم مع الخوف، ومع رغبة العالم في ترويض الكلمة.
* كيف ترى الحب؟ وكيف كتبته في أعمالك؟
ـ الحب عندي ليس أغنية رومانسية ولا مشهدًا ناعمًا في رواية.
هو امتحان الوجود، ولحظة الارتباك القصوى بين الرغبة والخلاص.
كتبته كما عرفته في حياة العراقيين: خليط من الحنين والألم، من الشوق والخذلان.
في نصوصي، الحب ليس الحل، بل سؤال جديد عن المعنى.
هو انفعال صادق يعرّي الإنسان من أقنعته، ويكشف ضعفه، ويجعله يواجه نفسه.
أجمل أشكال الحب عرفتها في عيون الأمهات وهنّ يودّعن أبناءهنّ، وفي انتظار امرأة لزوجها الذي غاب في الحرب ولم يعد.
من هذه التفاصيل وُلد الحب في كتاباتي، لا من قصص رومانسية، بل من أوجاع البشر الذين أحبّوا رغم كل الخيبات.
في جنوب العراق، حيث الأنغام تشبه الأرواح، تعلمت أن الحب ليس قولًا، بل صبر، وتقديس، وموسيقى تعبر القلب دون أن تُستأذن.
* كيف ترى الجيل الجديد من الكتّاب؟ هل هو امتداد أم قطيعة؟
ـ الجيل الجديد يكتب كثيرًا، لكن الكثرة ليست دائمًا علامة صحة.
كثير من الشباب يكتبون بسرعة، وينشرون قبل أن تنضج نصوصهم، وكأنهم يخشون أن يفوتهم القطار.
الكتابة تحتاج إلى صبر، إلى قراءة، إلى عزلة، إلى احتكاكٍ بالحياة.
يؤسفني أن أقول إن كثيرًا من الأصوات الجديدة لم تتعرّف على كبار الأدب العالمي، ولم تقرأ لمن وضعوا أسس الرواية والفكر الحديث.
ليس العيب في الجيل، بل في الزمن الذي يعيش فيه، زمنٍ سطحيّ يقدّس الشهرة السريعة ويهمل العمق.
ومع ذلك، أنا أؤمن أن بين هذا الجيل من سيكمل المعركة، لا بالتقليد، بل بالفهم والتمرد الحقيقي على كل ما هو زائف.
أتمنى أن أرى كاتبًا شابًا يكتب لأن قلبه يهتز، لا لأن جمهوره ينتظر منه منشورًا جديدًا.
* ماذا لو توقفت عن الكتابة؟ ما وصيتك؟
ـ توقفي عن الكتابة يعني أنني انتهيت قبل أن أموت.
هي ليست مهنة ولا عادة، بل قدر لا فكاك منه.
لكن إن حدث ذلك، فوصيتي بسيطة:
اقرأوا كتبي لا كأدبٍ جميل، بل كوثائق عن زمنٍ عشنا فيه بكرامة الكلمة وسط ضجيج التزييف.
وصيتي أن يسأل كل كاتب نفسه: هل يكتب ليشهد أم ليربح؟ هل يقول الحقيقة حتى حين تؤذيه؟
الكاتب الحقيقي لا يموت حين يُنسى، بل حين يكذب.
أنا مؤمن أن الكتابة شرف الله للروح، وأن الحرف الذي صدق لا يموت أبدًا.
ولذلك، لن أهجر الكتابة إلا إذا هجرتني، لأن الكلمة عندي وطن، ومن يترك وطنه يموت غريبًا.
* من يستمع إلى شوقي كريم يدرك أن الكتابة لديه ليست فعلًا أدبيًا فحسب، بل نوع من الشهادة على عصرٍ مأزوم، وموقفٍ أخلاقي قبل أن تكون حرفة.كلماته تنبع من جذرٍ عراقيّ عميق، يرى في الأدب وسيلة لحفظ الذاكرة، وفي الحكاية طريقًا لفهم الإنسان.إنه كاتب لا يهادن، يكتب من قلب الجرح لا من شرفته، ومن بين كلماته يتسرّب نَفَس وطنٍ يبحث عن معنى البقاء وسط رماد العالم.
أتمنى لك أخي شوقي الصحة والعطاء الدائم .