«لا حرية دون وعي، ولا وعي دون معرفة».. بهذه العبارة وضع المفكر علي شريعتي القاعدة الذهبية لفهم العلاقة بين الحرية والمعرفة والوعي. نحن أمام سلسلة مترابطة تبدأ بالمعرفة كجذر أول، يتفرع عنها الوعي كجذع صلب، لتثمر الحرية كغاية نبيلة لا يمكن أن تنمو في أرض خاوية. حين تنقطع هذه السلسلة، تتحول الحرية إلى شعار أجوف، وتصبح الفوضى البديل الطبيعي.
التاريخ خير شاهد على ذلك، فالثورات الكبرى لم تولد من فراغ، بل سبقتها عصور تنوير أضاءت العقول بالعلم والفكر، فيما ظلت المجتمعات المحرومة من المعرفة رهينة الظلام، حتى وإن رفعت شعارات الحرية. في علم النفس السياسي، يُعرَّف الوعي بأنه القدرة على إدراك البُنى الخفية التي تشكل الواقع، ما يعني أن الحرية ليست غياب القيود الخارجية فحسب، بل تحرر داخلي يبدأ من العقل. فالإنسان الجاهل قد يظن نفسه حراً، لكنه في الحقيقة يسير وفق ما تمليه عليه الدعاية أو العادات أو الخوف. لهذا ربط شريعتي الحرية بالوعي، والوعي بالمعرفة، مؤكداً أن القراءة والتفكير والتساؤل ليست ترفاً، بل شرط أساسي للخلاص من العبودية الفكرية والاجتماعية.
لكن ما نشهده اليوم على شاشات التلفاز يثير التساؤلات والقلق. اغلب البرامج الحوارية تحمل عنوان حرية الرأي، لكنها تفرغه من مضمونه ، حوارات تافهة، سب وشتم، تجاوزات لفظية تفتقر لأدنى مستويات الخطاب المهني والثقافي، نقاشات بلا عمق ولا مسؤولية، تُغذي الانحطاط بدلاً من أن ترفع الوعي.. الأدهى أن هذه المنابر لا تكتفي بالابتذال، بل أصبحت ساحة لتغذية التطرف وإذكاء الأفكار المنحرفة، بل وإحياء الطائفية لخدمة أجندات انتخابية، حتى بات السلم الأهلي مهدداً بمزايدات رخيصة وصراعات حزبية وطائفية. الأخطر أن كل ذلك يُقدَّم للمجتمع تحت لافتة “حرية التعبير” التي كفلها الدستور، بينما الحقيقة أن هذه الفوضى لا تمت للحرية بصلة. ما يحدث اليوم ليس حرية رأي، بل عبث يشرعن الانحدار، ويستورد ثقافات دخيلة على مجتمعنا، ويفتح الأبواب أمام خطاب الكراهية والفتن.
إن الحرية الحقيقية لا تعني انفلاتاً لفظياً ولا تحريضاً سياسياً، بل هي مسؤولية أخلاقية ومعرفية، تضبطها القيم قبل النصوص القانونية. فحين يغيب الوعي وتُغيب المعرفة، تتحول الحرية إلى أداة للهدم بدل أن تكون وسيلة للبناء.
إن معركتنا الحقيقية ليست ضد القيود القانونية، بل ضد الجهل الذي يختبئ خلف قناع الحرية لتمزيق المجتمع. علينا أن نعيد الاعتبار لمفهوم الحرية الناضجة التي تقوم على الفكر المسؤول والحوار الراقي، بعيداً عن ثقافة الشتائم والابتذال. لا بد أن يعلو صوت الوعي على ضجيج الفوضى، وأن ندرك أن الحرية بلا ثقافة ولا قيم ليست حرية، بل خراب وانحدار يهدد مستقبل الأجيال.
الحرية مشروع حضاري، لا منصة للتفاهة ولا أداة للشحن الطائفي. هي ثمرة تنمو على شجرة المعرفة والوعي، ولن تكتمل إلا إذا واجهنا هذا الانحطاط الإعلامي والفكري بكل قوة، وأغلقنا الأبواب أمام الخطابات المريضة التي تمزق نسيجنا الاجتماعي. الحرية مسؤولية، وحين نعي ذلك، فقط عندها يمكن أن نعيش في وطن تسوده العدالة، ويعلو فيه صوت العقل على صخب الفوضى.