رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
الخطاط يوسف الحمراني بين الحبر والورق تأملات في رحلة الخط العربي


المشاهدات 1532
تاريخ الإضافة 2025/10/08 - 9:24 PM
آخر تحديث 2025/10/13 - 7:08 PM

في مدينة بغداد التي تئن تحت وطأة التاريخ والحاضر، ينبثق نور الفن من يدي من يعطي الأحرف حياة ومعنى. الفنان التشكيلي والخطاط يوسف الحمراني ، أو الاسم الكامل  يوسف مجيد سعيد الحمراني، واحد من أولئك الذين أضاؤوا دنيا الخط العربي في العراق. وُلد عام 1968 في بغداد، وامتد شغفه بالخط من محاولات الطفولة إلى مشاركات دولية ومشروعات فنية ضخمة. في هذا الحوار، نغوص في ذاكرته، نتلمس همومه وإنجازاته، ونقرأ بين سطور الحِبر التي رسم بها اسمه في سماء الخط العربي.
* أهلا وسهلا بك أستاذ يوسف الحمراني الفنان التشكيلي والخطاط المبدع .
ــ أهلا بك وبالزوراء الحبيبة .
*  بدايةً، حدثنا عن نشأتك المبكرة في بغداد، وأثر البيئة التي نشأت فيها على مسيرتك الفنية.
ــ  وُلدت عام 1968 في بغداد، في بيت متواضع. نشأت يتيم الأب، فأمي — رحمها الله — كانت أمية، لا تقرأ ولا تكتب. رغم ذلك، كانت روحها طيبة وداعِمة لي. عشت طفولة في شوارع بغداد، حيث الفوضى والجمال، حيث الرغبة في التعبير كانت تُولد في الصمت.
كانت المدرسة أول بادرة للتلاقي مع القراءة والكتابة، وكنت دائمًا أجذبني جمال الحرف. في إحدى المكتبات العامة – عندما كنت في المرحلة المتوسطة – وجدت كراسة الخط العربي لمعلم الأجيال هاشم محمد البغدادي، وقد لفتتني بشكل كبير رغم أن مؤلفه قد توفي في بداية السبعينات. امتلكتهاُ وبدأتُ أقتفي أثر الحروف فيها، وأمارس ما أتعلمه على أوراق داخلية بسيطة.
*  متى بدأت علاقة جدية مع الخط، ومن هم المعلمون الذين أثَّروا فيك؟ 
ــ  في المرحلة المتوسطة بدأت بالكتابة بخط الرقعة والديواني من خلال ما تعلمته من الكراسة، ثم توسّع اهتمامي إلى خطوط أخرى. لكنني لا أنكر أنني تعلمت كثيرًا من مخطوطات الخطاطين الكبار، وكأنها دروس غير مباشرة.
في يوم 25 ديسمبر 1990، انضممتُ إلى  جمعية الخطاطين العراقيين، وأخذتُ دروسًا على يد الأستاذ  عباس شاكر جودي (عباس البغدادي)  في مقر الجمعية بشارع المغرب في الأعظمية. كانت فترة قصيرة، لكنها غيّرت منظوري؛ فقد أدركتُ أن الموهبة وحدها لا تكفي، يجب أن تُكلَّل بالمنهج والممارسة المتكررة، وما يسمى “المشق”.
*  كيف كان الواقع المادي والتقني أثناء بداياتك، خصوصًا في زمن الحصار؟ 
ــ  كنا في العراق نعيش في فترة صعبة، حيث قلت الواردات واشتدت القيود. لذا كنّا نستخدم الورق العادي الخشن، وأقلام بسيطة. في بعض الأحيان، نقوم بتجهيز الورق بأنفسنا، نخلط بياض البيض مع الشبّ ونطلي به الورق ليُصبح ناعمًا، ونحوّل الحبر العربي من تراكم السخام في بُجَر الأفران ثم نخلطه مع الصمغ العربي ليصبح حبرًا قابلًا للكتابة والتصحيح.. هذا كله جعل لكل لوحة نكتبها عبئًا إضافيًا؛ لا تتخيل أن ترسم حرفًا ثم تكتشف أن الورق خشن أو الحبر ثقيل، فتضطر للمسح وإعادة الكتابة.
*  ما الخطوط التي تشعر أنك تميّزت فيها، وما الذي جذبك إليها؟ 
ــ  أولًا خط الثلث، لأنه “سيد الخطوط” كما أُطلِق عليه. يُنسب إلى ابن مقلة البغدادي، وبعده ابن البواب، واليوم ياقوت المستعصمي هو من وضع الميزان المنظّم للنقطة كمقياس للحرف.
ثانيًا خط النسخ، الذي كتب به المصاحف، وقد شاركتُ في كتابة أجزاء من المصحف الشريف ضمن تجمع خطاطي العراق والمؤسسة التي تعرف باسم “مؤسسة ابن البواب للفنون الإسلامية.
بالطبع الخط المكتوب يدويًا يختلف في روحه عن الخط الرقمي، فالأخير أصبح شائعًا في العناوين والإعلانات، لكن إذا كان الخط اليدوي من يد متمكّنة، فالجمال فيه لا يُضاهى.
* كيف تطورت مشاركاتك في المعارض والفعاليات، داخليًا ودوليًا؟
ــ  شاركتُ في معارض كثيرة داخل العراق، أهمها معارض جمعية الخطاطين العراقيين ومهرجان دار السلام السنوي. أيضًا شاركتُ في “مهرجان السفير الدولي” ومسابقة “أرسيكا” في تركيا، ومهرجان الرواد، ومهرجان الواسطي، ومعارض في الجزائر وتونس ومصر.. في معظم هذه المعارض نلتُ شهادات تقديرية، وأحيانًا القلادة أو الدرع من جمعية الخطاطين العراقيين.
كما أن نشاطي يمتد إلى تقديم ورش ودورات مجّانية في دور مثل دار الكتب والوثائق الوطنية، ومركز المتنبي الصغير، والمتاحف، وبعض المدارس. كما أرسلت مقترحًا إلى وزارة التربية لتدريب الكوادر التدريسية على قواعد الخط.
*  حدثنا عن مشروع المصحف الذي كتبتموه مؤخرًا، وما مشاركتك فيه؟
ــ  في وزارة الثقافة من خلال دائرة الفنون العامة أُقيم معرض “القرآن منهجنا” الذي ضم مخطوطات لثلاثين جزءًا من القرآن الكريم، كتبها ثلاثون فنانًا من مختلف المحافظات، منهم أنا .
في الإعلام أيضًا ذُكِر أن خط هذا المصحف أنجز خلال ثلاثة أشهر، وبإشراف تجمع خطاطي العراق. 
ومن المراحل الدقيقة التي شاركنا فيها هي تحديد نوع الورق، حجم المصحف، مضمون الهوامش، اختيار قلم الخط (لقد اتفقنا أن يكون بسماكة 1.5 ملم) لكي يكون متناغمًا مع النسخة الأصلية التي اعتمدها الخطاط التركي محمد أمين الرشدي، والتي آثرنا الاقتداء بها من حيث التوازن والدقة.
 *  كيف ترى علاقة الخط العربي بالزمن الرقمي الحاضر؟ 
ــ  لا أنكر أن التكنولوجيا دخلت بقوة إلى مجال العناوين والإعلانات، فالبرامج الرقمية تتيح تحرير الخط بسهولة وسرعة. لكن في رأيي، الخط اليدوي له روح لا تُضاهى إذا كان من يد متمكنة.
الخط الرقمي مفيد للتطبيقات اليومية، لكن الحرف بالقلم يُعطي بُعدًا إنسانيًا، يلفت الانتباه ويخاطب النفس. أؤمن أن الخط اليدوي سيبقى حيًا إذا وُجد من يُحافظ عليه ويدرب الأجيال عليه.
*  ما أهم التحديات التي واجهتك خلال مسيرتك؟ 
ــ  أولها: موّدة الدعم المالي والمؤسسي. في معظم المشاريع كنتُ أتحمّل تكاليف ورقي وحبري وأدواتي بنفسي.
ثانيها: ضعف المنهج الرسمي لتدريس الخط في المؤسسات التعليمية. الخط غالبًا ما يُدرَّس تجميليًا، دون تأسيس له، لذا المقترحات لتدريب المعلمين تُنتظر الموافقة.
ثالثها: المحافظة على الاستمرارية والمشق، فبدون انقطاع، يفقد المرء حساسياته الفنية.
وأخيرًا التقدير: في بعض الأحيان يُنظر إلى الخطاط كمزخرف جميل، لكن لا يُقدَّر جهده الكامن من تحضير الورقة والحبر وتنظيم الحروف.
*  إذا طلبتَ أن تُوجِّه رسالة للشباب المهتمين بالخط، ماذا تقول لهم؟ 
ــ  أقول لهم: اقتربوا من الخط كتدريب يومي، لا كموهبة فحسب. اصنعوا الورق إذا لم تجدوه، جهزوا الحبر، وابدؤوا بحروف بسيطة، ومن ثم تحدّوا أنفسكم.
تعلموا أسس الحروف وقواعدها من المعلمين المتمكنين، ولا تكتفوا بالمشاهدة فقط، فالمخطوطات القديمة هي دروس قيمة بين السطور.. كونوا صبورين، فكل حرف يُكتب هو وثيقة داخل الروح، لا تسارع بالنتائج، بل استمتع بالرحلة.
ولا تنسوا أن تقدّموا مشروعًا للخط العربي في مدارسكم، لتكونوا جسورًا بين الفن والتراث.
*  ما الذي دفعك إلى دمج الرسم مع الخط العربي في أعمالك التشكيلية، وكيف تُوازن بين الجانب الجمالي والخطِّي في اللوحة؟
ــ  الرسم عندي ليس منفصلاً عن الخط، بل هما وجهان لعملة واحدة في التعبير، خصوصًا عندما يكون الخط جزءًا من الهوية والتراث. دمجي للرسم مع الخطّ العربي جاء من رغبة في منح الحروف حياة بصريّة أوسع، أن لا تظل مجرد كتابة بل تصبح جزءًا من الصورة الكاملة، من التكوين والتلوين والظلّ والنور.
التوازن يتحقق عبر اختيار الموضوع، فمن يمد الخطّ بدور مركزي في اللوحة – مثل كتابة اسم أو لفظ جلالة أو آية – أمنحه المكان المناسب وخطًا واضحًا، أما إذا كان الهدف أن يكون الخط جزءًا من بنية تشكيلية أوسع، أتناغم الألوان والخطوط والرسم بحيث لا يطغى عنصر على الآخر. كذلك اختيار الورق المناسب، الحبر، الورنيش أو التلوين، كلها أدوات تساعد على إبراز التوازن بين الجماليات البصرية والخطِّيّة.
* كيف ترى تطور الفن التشكيلي في العراق المعاصر، خصوصًا من حيث الموضوع واللغة البصرية، وهل هناك توجه لديك للمشاركة في التيارات التشكيلية الحديثة أو التجريد؟
ــ  الفن التشكيلي في العراق يمرّ بمرحلة تحوّل وتحديث؛ تتداخل فيه الأصالة مع المعاصرة، والتراث مع التجريب. الموضوعات بدأت تتوسع لتشمل هموم المجتمع، الهوية، الذاكرة، والسياسة، بالإضافة إلى الرموز الإسلامية والتراثية التي أراها دائمًا قوية.
أما اللغة البصرية، فهناك وعي متزايد بأهمية اللون، التكوين، الفراغ، الإيقاع البصري، وحتى التجريد. شخصيًا، لدي استعداد لتجريب مزيد من المفردات التشكيلية الحديثة إن اقتضى الأمر المشروع الفني، لكن دون التخلي عن الخطّ العربي كمكوِّن أصيل. أرى أن تجريب الخط مع التجريد أو اللون أو التأثيرات البصرية الحديثة يجعل العمل أكثر قدرة على التواصل مع أجيال جديدة، ويمنح الخط روحًا معاصرة.
الخلاصة
في حضرة الأحرف، يُنحت الاسم، ويُشحن القلب. يوسف الحمراني – الذي بدأ بخط الرقعة في كراسة قديمة، ثم صقلت يداه بألوان النور – هو نموذَج للفنان الذي لا يكتفي بالكتابة، بل يتشبع بروح الخط، يعيش بين الورق والحبر، ويحوّلهما إلى حالة جمالٍ وتأمل.
ورغم الصعاب، فإن مشاركاته في كتابة المصحف الشريف، ومساهمته في معارض داخل العراق وخارجه، ودروسه المجانية، كلها تشير إلى أن الخط العربي في العراق ما زال ينبض بالحياة بفضل أيدي مثل يديه.
أدعو له بالصحة والعطاء المستمر، وللجيل القادم بأن ينهل من حبره، ويكتب بين السطور حكاية جديدة للخط العربي.


تابعنا على
تصميم وتطوير