إستضافت تنسيقية التيار الديمقراطي العراقي في هولندا، السينمائي والكاتب العراقي قاسم حول لإلقاء محاضرة عن الثقافة والوطن العراقي. مثّل تنسيقية التيار الديمقراطي السيدان حيدر فخر الدين وخالد حسين، وقد قدمه للحضور السيد تحرير الكروي. وقد استهل قاسم حول حديثه عن الثقافة المتأصلة في الوطن العراقي منذ الحقبة السومرية.
من جانبه، أكد المخرج قاسم حول أن الثقافة بحاجة إلى بيئة مستقرة، مشيرًا إلى تدهور المشهد الثقافي في بغداد وخشيته من أن يمتد ذلك ليهدد هوية الوطن الجغرافية أيضًا. كما أوضح أن العراق اليوم يفتقر إلى صناعة سينمائية حقيقية، إذ لا توجد بنية تحتية أو قاعدة إنتاج متكاملة، بل مجرد محاولات فردية لإنتاج أفلام. واستعرض جانبًا من تجربته في الوطن، وما واجهه من مضايقات وتحديات خلال عمله الفني. ومما جاء في المحاضرة:
«أود في بداية حديثي في لقائي مع أهلي في المهجر الهولندي أن أتحدث عما كان يجري من نظام ثقافي في بلاد ما بين النهرين عن أهم وأقدم نص ثقافي في التاريخ الإنساني وهو» ملحمة كلكامش» وهو نص درامي وشاعري في أبعاده البنيوية. لم تكن «ملحمة الطوفان» تعود إلى ما يزيد على سبعة آلاف عام فحسب، لكنها دونت في ذلك التاريخ حين إخترع السومريون الكتابة المسمارية التي علمت البشرية التدوين، وكانت تدون على رقم طينية وألواح طينية، وهذه الملحمة تعود إلى آماد غير معروفة ربما تم تداولها منذ مئات الآلاف من السنين أو ربما ملايين من السنين لا أحد يعرف أصول تلك الملحمة الخالدة المتعلقة بالوجود الإنساني والتي تبحث في موضوعة الوجود والحياة والموت وتبحث في أهم قضية تشغل العقل البشري كانت ولا تزال وهي مسألة الوجود».
- وعن اصل المسرح اضاف حول:«يشير مؤرخو تاريخ المسرح إلى أن ثقافة المسرح تعود إلى 490 قبل الميلاد في أثينا وهي مسرحية «المتذرعات» وينسبون ذلك التاريخ إلى ما كتبه «أسخيلوس» عن هروب خمسين امرأة في مسألة الإقتران بالزوج، ولكن لا أحد يذكر أن النص السومري في عراق ما بين النهرين هو أصل المسرح .. الفرق أن متذرعات إسخيلوس تم تمثيلها على مسرح يتسع لكل نفوس أثينا في تلك الحقبة حيث تم بناء مسرح نصف دائري يتسع إلى 14 الف مشاهد وذلك في منطقة «أبيثاروس» الأثرية في أثينا الأغريقية. فيما إنعدمت منصة المسرح لتقديم الطوفان وهو كما أسلفت النص الدرامي في لغته وحواره وشخوصه «كلكامش، أنكيدو، شمخه، سيدوري، والشعب الأسطوري.»
وعما حل بأسطورة كلكامش، اردف قائلا: حين أسس العراق الحديث في عام 1920 واكبت ضابط المخابرات البريطانية «مسز بيل» تجربة تأسيس العراق، وكانت تهيمن على الواقع السياسي في المنطقة، ونقلت كل الرقم الطينية والألواح الطينية التي كانت تمثل الحياة اليومية المدونة لشعب سومر، وكانت هذه المدونات المكتوبة على الطين تم شيها في النار وصارت آثارا صلدة تقاوم التلف ووصلتنا ونقلت إلى متحف خاص مع جدارية تمثل الحياة السومرية .. وهذه الآثار السومرية العراقية غير متوفرة للمشاهدة، فهي في متحف ثان غير المتحف البريطاني وتمنع زيارته!!؟
لقد تعرفت على البروفسور فاروق الراوي المقيم في بريطانيا والخبير بالآثار، وبشكل خاص الكتابة المسمارية والذي يعمل في ذلك المتحف. تعرفت عليه يوم هاتفني مستفسرا عن فيلمي «الأهوار» وخبرني أنه سبق أن شاهده ولكنه يريد نسخة منه .. سألته عن السبب فخبرني في خلال نقله للثقافة السومرية المدونة على الرقم والألواح الطينية، أنه عثر على شعر بنفس إيقاع غناء العرس الذي صورته في أهوار العراق، وحين طلبت منه زيارة المتحف قال لي أقترح أن تقدم طلبا للتصوير، وسوف أسعى مع مدير متحف الآثار المتخصص بالسومريات وبرقمهم وألواحهم وجداريتهم. قدمت الطلب وسعى البروفسور الراوي من جانبه للحصول على زيارة المتحف الخاص جدا، وإستغرقت الموافقة ستة شهور وتم السماح لي بالزيارة والتصوير لساعة واحدة فقط من الساعة الثانية عشرة إلى الواحدة وبشروط صعبة في التواجد والتصوير. وأنا أحتفظ بالمادة المصورة. وعندما تدخل ذلك المتحف الكبير والمغلق تجد في مدخله جدارية كبيرة نحتها السومريون عن الأقوام التي تعيش في المساحات المائية «الأهوار» وقد صورتها، وهي الجدارية التي نقلتها «مسز بيل» من العراق إلى بريطانيا».
وحول استفسار احد الحاضرين ان كانت لدينا معلومات كافية عن الواقع الثقافي لحضارة وادي الرافدين، أجاب :
«نحن لا نعرف عن تلك الحقبة العظيمة والمتنوعة سوى القليل القليل، لأن الشواهد التي تنم عن تفاصيل الحياة الإقتصادية المتقنة والإجتماعية المتقنة والثقافية المتقنة، قد رحلت ولم تكشف أسرارها الحقيقية المدهشة.. أخذتها مسزبيل، وحين وقعنا تحت الإنتداب البريطاني في بداية تأسيس الدولة العراقية (1920) نقلت الكثير من الآثار ومنها «الراية السومرية» المصنوعة من حجر اللازورد والتي نحت على واجهتين، الأولى الدفاع عن سومر من قبل «مقاتلي الأشداء الشجعان الذين لا يعرفون الراحة – كما يعبر الملك السومري» والواجهة الثانية الغنائم التي حصلوا عليها من الأعداء المعتدين!! هذه الراية التي لا تقدر بثمن نقلت إلى بريطانيا في أعوام الأربعينات بسبب شرخ بسيط جدا في الراية المنحوتة، في وسطها، نقلت بهدف ترميمها وإعادتها للعراق. وهي حتى الآن تزين المتحف البريطاني في حجرها اللازوردي ومجوهراتها النادرة وتشكيلها المتداخل جماليا .. وهي كما عرف عنها «الأثر الذي لا يقدر بثمن»!!.. لقد أهديت فيلمي الأهوار للبروفسور الرواي الذي يساعد الخبراء في عملهم لترجمة الحياة اليومية للحقبة السومرية، ومعرفة معتقداتهم الدينية والحياتية. وأجريت معه لقاءً مصوراً مسجلاً في داخل المتحف غير المسموح بزيارته وحدثني عن تفاصيل الحياة السومرية من خلال تلك الرقم والألواح الطينية المشوية والتي باتت صلدة ومنقوشة بالكتابة المسمارية».
وحول رمزية المراحل التي مرت بها بلاد ما بين النهرين، اجاب: «مرت بلاد ما بين النهرين بحقب الأكدية والبابلية، وفيها الإنجازات الثقافية الكثيرة والتي إتسمت بإبداعات متنوعة منها القوانين الإنسانية في مسلة حمورابي ومنها الحقبة البابلية وملوكها وصولا إلى ما عرف بالعراق الحديث. وما جرى لهذا العراق الحديث من أحداث سياسية دامية، منها ما إتسم بالحرص الوطني ومنها ما إتسم بالحياة الدموية وبشكل خاص الحقبة الدكتاتورية، وصولا إلى هذه الحقبة التي أسقطت نظام العسف الدموي الدكتاتوري عام 2003، التي كنا نطمح بعراق جديد مستفيدا من قراءة واعية للتجارب السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية والإعلامية، وبناء عراق ثان ينتمي إلى التاريخ المدهش وليس إلى التاريخ الدكتاتوري الذي حطم منظومة القيم الأخلاقية والأكاديمية العلمية والتعليمية والثقافية والإعلامية.
لقد مرت أكثر من عشرين عاما على عراق ثانٍ كان ينبغي أن ينشأ على إستعادة مجده المشرف، ولكن ثمة هيمنة مخيفة تتسم بالإعلام الذي إستوعب الثقافة وحولها إلى حالة «مرضية»! في المجتمع والفرد في العراق. ولم تعد الثقافة بكل أداوت تعبيرها الفنية والأدبية وعلى منهجها التعليمي والأكاديمي قادرة على بناء المجتمع الذي كنا نطمح إليه بعد سقوط الدكتاتورية المقيتة التي أدخلت العراق في الحروب الكارثية العبثية». وفي ختام الأمسية، جرى تكريم المخرج من قبل ممثل السفارة العراقية والجهة المنظمة تكريمًا لعطائه الفني والثقافي.