رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
أنين سومري


المشاهدات 1125
تاريخ الإضافة 2025/10/01 - 9:30 PM
آخر تحديث 2025/10/02 - 7:08 PM

على ضفاف دجلة والفرات، حيث يختلط الطين بدموع الفقد، وحيث تسري أرواح الأجداد في نسيم المساء، يتعالى صوت النعي كأنّه أنين الأرض الأولى. هناك، في قلب التاريخ، تتماوج كلمات الوداع مثل موجات النهر، حاملةً وجع الخسارة وحنين البقاء، فتغدو المراثي لغةً تتجاوز الزمن، وجسراً بين عالم الأحياء وسماء الغائبين.
في أرض ما بين النهرين، مهد الحضارة وأرض الأساطير، ابتكر السومريون طقس النعي كأحد أقدم أشكال التعبير الإنساني عن الحزن. لم يكن النعي مجرّد كلمات تُتلى في وداع الراحلين، بل كان طقسًا مقدّسًا يجمع بين الشعر والموسيقى، وتفيض منه مشاعر الفقد وتوق الخلود. فقد آمن السومريون أن الموت ليس نهاية، بل رحلة أبدية تنتقل فيها الروح إلى عالم آخر، وأن الأناشيد الحزينة تسهّل عبور الروح إلى ذلك العالم.
كان المشهد يبدأ باجتماع الأهل والأقارب حول الجسد، حيث تتعالى أصوات المراثي بنغمات حزينة تصاحبها أوتار القيثارة السومرية. هذه الألحان، التي ترددت في قصور الملوك وبيوت العامة، ما زالت حاضرة في النصوص القديمة مثل مرثية سقوط مدينة أور، ومرثية جلجامش لصديقه إنكيدو، اللتين جسّدتا ألم الخراب وخوف الإنسان من الفناء. وكانت كلمات النعي تصف حياة الفقيد وفضائله، مانحةً إياه خلودًا رمزيًا في ذاكرة الأحبة.
ولم يتوقف صدى النعي عند حدود الأزمنة السومرية ، فصوته ما زال ينساب في وجدان العراقيين، خصوصاً في جنوب العراق، حيث تتفنن النساء في ارتجال المراثي. هناك، تُسمع أصواتهن الشجية وهي تشق سكون المجالس، تحمل في طياتها الحنين إلى الماضي والحب العميق للمفقودين، وتستحضر صورهم بحروف تحاكي وجع الروح. كلماتهن، الممزوجة بدموع صامتة، تعكس استمرارية هذا الإرث الإنساني، إذ تبقى المراثي لغة الخلود والوفاء، ونداءً يربط الحاضر بظلال الأجداد، ليظل النعي العراقي، في الجنوب على وجه الخصوص، مرآة صادقة لحزن الإنسان أمام غياب من يحب.
هذا الإرث، الممتد من سومر إلى حاضرنا، يثبت أن النعي ليس مجرد وداع، بل هو فعل مقاومة للنسيان، واعتراف بأن الحُبّ لا يموت مهما توارى الجسد.


تابعنا على
تصميم وتطوير