رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
خطاب في قاعة فارغة


المشاهدات 1251
تاريخ الإضافة 2025/09/29 - 9:38 PM
آخر تحديث 2025/10/02 - 5:24 PM

لم يكن المشهد الذي جرى في قاعة الأمم المتحدة لحظة إلقاء كلمة بنيامين نتنياهو مشهداً عادياً أو عابراً. إنّه، بكل المعايير، صورة مكثفة للتحولات العميقة التي يشهدها العالم تجاه دولة الاحتلال. أن يتحدث رئيس وزراء الاحتلال أمام مقاعد شبه خالية، فيما يغادر ممثلو الدول تباعاً، فذلك أقرب ما يكون إلى صفعة علنية تُوجَّه أمام عدسات الكاميرات، لا لنتنياهو وحده، بل لما تمثّله “إسرائيل” برمتها.
حتى إعلام الاحتلال نفسه لم يجد ما يبرّر المشهد، إذ خرجت مراسلة القناة (13) لتقول بمرارة: “عندما يغادر الدبلوماسيون الأجانب القاعة واحداً تلو الآخر فور بدء خطاب نتنياهو، فإنهم لا يبصقون في وجه نتنياهو، بل يبصقون في وجه إسرائيل.” وهذه الحقيقة وحدها تكشف عن عمق العزلة التي باتت تعيشها دولة الاحتلال.
لقد نجحت أحداث غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 في كسر الرواية التي عمل اللوبي الصهيوني لعقود طويلة على تسويقها في الغرب، التي جعلت من الاحتلال “ضحية”، ومن النضال الفلسطيني “إرهاباً” يستهدف المستوطنين. تلك الأكذوبة تهاوت تحت ثقل الدماء والصور القادمة من غزة، التي أظهرت بوضوح من هو الجلاد ومن هو الضحية. لقد باتت الجرائم الموثقة بالصوت والصورة أقوى من أي خطاب دعائي، وأقدر على هزّ ضمائر الرأي العام الغربي.
هذا التحول الإعلامي لم يكن سهلاً، فقد استغرق عقوداً من العمل السياسي والدبلوماسي دون أن يتحقق التغيير المطلوب. لكن المجازر اليومية التي ارتكبتها آلة الاحتلال في غزة صنعت منعطفاً تاريخياً: لأول مرة، يخرج آلاف المثقفين والصحفيين والأكاديميين في أوروبا وأمريكا للدفاع عن الحق الفلسطيني، ولأول مرة تُقارن “إسرائيل” علناً بأنظمة الفصل العنصري والفاشية.
ما جرى في قاعة الأمم المتحدة لم يكن انسحاباً بروتوكولياً، بل إعلاناً رمزياً عن فقدان الاحتلال لشرعيته الدولية. عزلة تتسع يوماً بعد يوم، حتى لم تعد تغطيها إلا مظلة أمريكية آيلة للتصدع. فالإدارة الأمريكية، رغم دعمها، تجد نفسها في موقع لا تُحسد عليه، إذ يتزايد الضغط الداخلي عليها، خصوصاً في أوساط الجامعات والشارع الغربي، حيث تحولت فلسطين إلى قضية يومية في الإعلام والفضاء الرقمي، حاضرة في المهرجانات، الجامعات، ساحات التظاهر، وحتى على طاولات النقاش الأكاديمي والبرلماني.
إن ما لم تحققه الدبلوماسية العربية خلال خمسة وسبعين عاماً، بدأ يتحقق اليوم بفعل صمود أهل غزة وكفاحهم. لقد انتقلت القضية الفلسطينية من خانة “الهامش” إلى صدارة النقاش العالمي، وأصبحت اختباراً أخلاقياً للأنظمة والدول، من يقف مع العدالة ومن يشرعن الجريمة.
قد يحاول نتنياهو أن يُمسك بالخريطة ويرسم حدوداً وهمية، لكن الخريطة الحقيقية التي رُسمت في الأمم المتحدة كانت تلك القاعة الفارغة: صورة مكثفة لدولة بلا أصدقاء، ولزيفٍ لم يعد العالم قادراً على تصديقه.
 


تابعنا على
تصميم وتطوير