لم تعد المجازر التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني في غزة حدثاً عابراً في نشرات الأخبار، بل انتقلت إلى نقطة تحوّل تاريخية غيّرت نظرة العالم إلى الدولة العبرية وعلى وجه الخصوص دول أوروبا التي لن تدخر جهداً في إرضاء الكيان، فيما الكيان حتى ساعتنا هذه، تعّير تلك الدول في كل مناسبة أو محفل دولي بادعاء ضلوعها بما يسمى بالمحرقة …! صور القصف والدمار، الأطفال تحت الأنقاض، والكارثة الإنسانية التي يعيشها مليونا شخص من سكان القطاع، فجّرت وعياً جديداً لدى الرأي العام الأوروبي الذي بات موقناً أن (إسرائيل) ليست دولة ديمقراطية كما تدّعي، بل مشروع قائم على الاحتلال والعنف والتطهير العرقي. هذه الحقيقة التي حاول الكيان إنكارها لعقود، يبدو أنها بدأت تظهر جليا في ميدان لم يتوقعه الكيان يوما… الثقافة والفن.
بلجيكا تكسر «تابو الكيان» وتلتحق بالركب
إدارة مهرجان (غنت) في (فلاندرز) اتخذت خطوة غير مسبوقة بإلغاء مشاركة القائد الموسيقي (لاهاف شاني) الذي يحمل جواز سفرٍ(سرائيلي). إذ أفادت إدارة المهرجان أنها لم تحصل على «وضوح حول موقفه من نظام الإبادة الجماعية في تل أبيب». وهنا يأخذنا هذا الاستدلال الذي طرحته ادارة المهرجان على قائد الاوركسترا، الى الاستفسار الاستفزازي الذي طالما استخدمه أرباب الكيان في إقصاء خصومهم بطرحه الا وهو «هل تدين الهولوكوست؟» ليضاف إليه مؤخرا «هل تدين أحداث السابع من أكتوبر؟»
هذا الموقف مثّل انعطافة خطيرة لمحاولات الكيان المستمرة في تلميع صورته عبر القوة الناعمة. ليحول هذا الموقف المنطقي لإدارة المهرجان إلى تهمة جاهزة الصقت بإدارة المهرجان وهي «معاداة السامية»، لكن الحقيقة أوضح من أن تُخفى عن الشعوب الأوروبية التي لم تعد تقبل أن تقف الموسيقى والفن على مسافة واحدة من المجرم والضحية.
يوروفيجن يتحول إلى ساحة مواجهة
المشهد نفسه تكرر على نطاق أوسع مع مسابقة الأغنية الأوروبية – يوروفيجن التي تستضيفها العاصمة النمساوية فيينا في أيار/مايو من العام المقبل. هولندا أعلنت عبر قناتها الرسمية (AVROTROS) أنها لن تشارك طالما أن إسرائيل موجودة في المنافسة، في إدانة واضحة للجرائم في غزة. ثم جاءت ايرلندا ثانية في هذا القرار، فيما أيسلندا وسلوفينيا وإسبانيا لوّحوا بخطوات مماثلة.. هذه القرارات تعد الصادمة للكيان، فمسابقة الاغنية الاوروبية والتي يشارك فيها الكيان منذ العام 1973، تمثل أكثر من مجرد مسابقة موسيقية، فهي تحمل أبعادًا سياسية وثقافية ورمزية كبيرة، فدولة الاحتلال منذ تأسيسها تسعى لربط نفسها ثقافيًا وسياسيًا بأوروبا والغرب.
المفارقة أن جانب الكيان رد على القرار قائلا إن «يوروفيجن لا يجب أن يصبح سياسياً»، في حين انها من اول الدول التي حثت المجتمع الدولي على ابعاد روسيا من هذا الحدث نفسه العام 2022 أثر حربه على اوكرانيا لتتحول هذه المقاطعة الى مجمل المهرجانات الفنية والرياضية منذ بدء حربها على أوكرانيا. الواقع يقول إن الكيان هو من يزج السياسة وكل ما يمكن زجه في خدمة قضيته غير العادلة.
وهنا يأخذنا المشهد الحالي الى جنوب إفريقيا ويعيد إلى الأذهان نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) حينها، إذ طُردت جنوب إفريقيا من الألعاب الأولمبية وقاطع الفنانون العالميون مهرجاناتها الفنية، ثم لحقت بها العقوبات الاقتصادية حتى انهارت. والغريب ان جنوب افريقيا التي تعد اليوم الخصم اللدود للكيان في محكمة العدل الدولية كانت أيام الفصل العنصري من اقرب الدول الحليفة لدولة الكيان. فكلا النظامين كانا يريان نفسيهما في حالة حصار من محيط «عدائي» فالكيان من الدول العربية وجنوب أفريقيا من الدول الأفريقية.
الكيان اليوم يواجه بداية المسار نفسه
بدأت بالمطالبات الطلابية في اوروبا وامريكا بمقاطعة جامعات الكياني، مرورا بحملة المقطعات للمهرجانات الفنية وربما تمتد إلى المجال الرياضي خصوصا بعد الازمة التي حدثت في مدينة روتردام الهولندية حين توجه متظاهرون الى مدخل ملعب البيسبول (نيبتونس) غالقين إياه، حيث أقيمت مباراة جمعت فريقي الكيان وفرنسا ضمن بطولة اوروبا للبيسبول. وسبقه الصخب الذي أحدثه متظاهرون في سباق اسبانيا للدراجات الاسبوع الماضي حيث اقتحم الجمهور الاسباني مضمار السباق، وأردى العوارض الحديدية في مضمار السباق بغية عرقلة المتسابقين من الوصول الى خط النهاية بعد تداول اخبار مشاركة فريق دراجات صهيوني. وحمل المتظاهرون راياتٍ وشعارات مناهضة لدولة الاحتلال بعدما اجتازوا الحواجز الأمنية ما حدا بإدارة السباق أن تلغي المرحلة الأخيرة بعدما كان مقرّراً أن تنتهي هذه المرحلة في وسط مدريد، مع مراسم التتويج.
ومع كل يوم يمرّ، تتسع دائرة العزلة، وتقترب إسرائيل أكثر فأكثر من أن تصبح كياناً منبوذاً على الساحة الدولية. وكما أجبرت المقاطعة الثقافية والرياضية نظام الأبارتهايد على الركوع، فإن عزلة الكيان الثقافية قد تكون الشرارة الاولى التي تدفع الحكومات لاحقاً للرضوخ لإرادة شعوبها، ثم إلى فرض عزلة سياسية واقتصادية شاملة.
وفي سياق هذه الأحداث المتلاحقة يتبادر الى الأذهان السؤال: اين نحن من كل هذا؟ ففيما نجد هذه الدول البعيدة في الدين والجغرافيا تبادر في حملة المقاطعة والعزل نجد أن دولا في المنطقة اكتفت بنداءات الشجب والاستنكار، وما تمخض عن القمتين العربية والإسلامية العاجلتين جدا هو خير دليل. وهكذا يتضح أن المواقف لا تُقاس بالقرب الجغرافي ولا بالشعارات، بل بالفعل الصادق. ويبقى الضمير الإنساني هو البوصلة الحقيقية للتاريخ والجغرافيا والدين.