رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
في الذكرى الـ 64 لاعتلاء عدنان مندريس حبل المشنقة ...ضـــحايا على مشـــانـق العسكر


المشاهدات 1060
تاريخ الإضافة 2025/09/16 - 9:38 PM
آخر تحديث 2025/09/17 - 1:53 AM

في مثل هذا اليوم، السابع عشر من أيلول/ سبتمبر1961، توجهت أنظار الأتراك إلى جزيرة إمرالي، إذ نُفذ حكم الإعدام برئيس الوزراء التركي الأسبق عدنان مندريس. وكان قد أُعدم قبل يوم واحد وزير خارجيته فطين رشدي زورلو، ووزير ماليته حسن بولاتكان.

 وعلى الرغم من أنّ المشانق نُصبت تحت حراسة مشددة بعيدًا عن أعين الشعب، فإن وقع الحدث ظل حاضراً لعقود طويلة، كجرح غائر في الذاكرة السياسية التركية. ففي ذلك الصباحٍ القاتم كانت صورة واحدة تختصر فصول محاكمة سياسية صاخبة هزّت تركيا : رئيس وزراء مُنتخَب يتدلّى جسده على حبل المشنقة، وعلى صدره ورقة كبيرة تحمل كلمة « Hüküm «، أي « الحكم» التي أعلنت بإيجاز أنّه مذنب بـ « انتهاك الدستور وخيانة الوطن»، وأن مصيره هو الإعدام شنقاً.
 تقع جزيرة إمرالي الصغيرة، التي لا تتجاوز مساحتها تسعة كيلومترات مربعة، في قلب بحر مرمرة على مسافة ساعة بالعّبارة من ساحل إسطنبول، وقد ارتبط اسمها في الخيال التركي والعالمي بمشهد إعدام رئيس وزراء منتخب بعد انقلاب عسكري. سُمّيت الجزيرة باسم القائد العثماني أمير علي الذي استوطنها بعد الفتح العثماني. ومنذ ذلك الحين ظلّت بعيدة عن الأنظار، تُستخدم مكاناً للنفي أو مستعمرة عقابية. وفي القرن العشرين تحولت إلى سجن مغلق لا يدخله إلا المحكومون بأخطر الأحكام، وكان آخر نزلائها المشهورين عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني.
ضريح مندريس ورفيقيه في نهار شتوي من نهايات تشرين الثاني الباردة، خطر في بالي قبل أربع سنوات، حين كنتُ مقيماً في إسطنبول، أن أقوم بزيارة تلك القبة الخضراء المميزة التي طالما لفتت انتباهي وأنا اصعد الترام ذهاباً وإياباً من محطة سلطان أحمد إلى توب كابي، إذ اصعد منها خطاً آخر للوصول إلى منطقة سكن ابن أخي بلال تركي في سلطان غازي التي يقيم فيها منذ أن غادر العراق قبل نحو عشر سنوات. يقع الضريح على مقربة من محطات المترو وخطوط الترام والمتروبوس، وبقايا أسوار القسطنطينية، وتحمل محطة الترام القريبة منه اسم « وطن Vatan «، غير أن بلال دليلي في المدينة، اصطحبني بسيارته نحو الصرح الأخضر المُصمم بعناية، والمزخرف بالرخام المنقوش، الذي يطل مباشرة على شارع وطن، أحد أشهر وأعرض شوارع المدينة. هناك يرقد عدنان مندريس 1899 – 1961 في قبر مرتفع، وإلى جانبيه يرقد وزير خارجيته زورلو  1910 – 1961، ووزير ماليته بولاتكان 1915 – 1961. وقد صُممت القبور الثلاثة في كتلة رخامية واحدة، في إشارة رمزية إلى أنهم دفعوا حياتهم سوية على مشانق العسكر المدافعين عن علمانية تركيا، بعد أن استفزتهم سياسات مندريس وتوجهاته مندريس الإسلامية.
 رواية شاهد من الجنود
 تفاصيل اليوم الذي أعدم فيه مندريس تحيطها السرية وتكثر حولها الشائعات. غير أن الصحفي التركي شعبان عبد الرحمن نشر قبل سنوات شهادة المواطن مظفر أركان، أحد الجنود الأربعة الذين تولوا نقله من جزيرة ياسِّي أضا إلى إمرالي. يقول أركان: في الصباح الباكر أمرني الضابط المسؤول بالذهاب إلى غرفة احتجاز مندريس، بعد يوم من إعدام الوزيرين زورلو وبولاتكان. قيل أنه سينقل إلى إسطنبول للفحص الطبي ومن ثم إلى أنقرة لرؤية عائلته، لكن ذلك كان كذباً. لم يسمح الطبيب أول الأمر بإعدامه بسبب مرضه، فاستدعوا طبيباً من مستشفى  أوسكودار دينيز، الذي أعطاه علاجاً مكّنهم من تنفيذ الحكم. وبعد أن استعاد عافيته وقّع القائد العسكري على أمر الإعدام. ويضيف أركان « ما نُشر عن كلمات وداع طويلة لمندريس غير صحيح. آخر ما قاله : « كنتُ رئيساً للوزراء عشر سنوات، سيكتب التاريخ إنجازات ثمان منها، وسنتين ضاعتا في المجاملات الرسمية. حلمت أن أُعلم ابني يوكسيل في مدارس الدولة، ليكتب قلمه ذهباً، حتى لا يعيش أولادنا ما عشناه». ثم يصف كيف حافظ مندريس على كرامته حتى اللحظة الأخيرة، وكيف ارتدى بدلة سوداء بخطوط بيضاء وربطة عنق أعدت له، ظناً منه أنّه متجه إلى إسطنبول، قبل أن يؤمر بنقله فجراً إلى إمرالي حيث نُفذ فيه الحكم. كان الجلاد الذي نفذ الحكم في الثلاثينيات من عمره، اقترب من مندريس واضعاً حبل المشنقة حول رقبته، ثم قال وهو ينظر إلى حذاء مندريس: إن هذا الحذاء سيكون لي بعد انتهاء الإعدام! .
 خَلعَ معطف الأتاتوركية وأعاد الأذان بالعربية  خلع عدنان مندريس «معطف الأتاتوركية» الذي ورثه عن كمال أتاتورك العلماني وخلفه عصمت إينونو، وسلك مساراً مغايراً في التعامل مع الهوية الإسلامية لتركيا: أعاد الأذان بالعربية بعد أن فُرض بالتركية، وأعاد فتح المساجد التي حُولت إلى مخازن، وسمح بتعليم العربية وافتتاح مدارس تحفيظ القرآن ومعاهد الوعظ والخطابة. هذه السياسات، إلى جانب سياساته الاقتصادية المنفتحة وتشجيعه القطاع الخاص، وعمله على تغيير الهوية العلمانية لتركيا، كانت من أسباب الانقلاب عليه وتقديمه إلى محاكمة صورية استثنائية .
في أيلول/ سبتمبر 1990 وفي ذكرى مرور ما يقرب من ثلاثين عاماً على اعدامهم تم نقل جثمان عدنان مندريس ووزيريه من قبورهم في جزيرة إمرالي إلى هذا الضريح الذي أقامته بلدية اسطنبول بعد صدور قانون رد الاعتبار لهم بجهود من الرئيس الأسبق توركوت أوزال، والاقرار بأن التهم التي وجهت اليهم كانت ظالمة. 
وُلد عدنان مندريس عام 1899 في مدينة آيدن غرب تركيا، أيام الإمبراطورية العثمانية، درس في المعهد الأمريكي في أزمير، وحصل على شهادة الحقوق في جامعة أنقرة، ثم انخرط في الحياة السياسية، وأسس مع جلال بايار وآخرين الحزب الديمقراطي سنة 1946، ليكون بديلاً عن هيمنة حزب الشعب الجمهوري الكمالي. تولى رئاسة الوزراء لمدة عشر سنوات « 1950 – 1960» بعد فوز حزبه في انتخابات أنهت عقودًا من حكم الحزب الواحد، وقام بخطوات لتحرير الاقتصاد من سيطرة الدولة وتشجيع الاستثمار، واهتم بالبنى التحتية والطرق والاتصالات. ومنح مساحة أوسع للمظاهر الدينية في الحياة العامة، مثل رفع الأذان بالعربية بعد أن كان مفروضًا بالتركية. أُحيل مندريس ورجال حكومته على محاكمة خاصة عُرفت بـ «محاكم ياسّي أضا» نسبة إلى الجزيرة التي جرت فيها المحاكمات بعد الانقلاب العسكري في 27 أيار/ مايو 1960، ووُجهت له العديد من التهم، منها انتهاك الدستور، وإساءة استخدام المال العام، والتضييق على الحريات، وإصدار أوامر بقمع المظاهرات الطلابية بالقوة. صَدرت أحكام بالإعدام على عدد من قادة الحزب الديمقراطي، ومنهم رئيس الحزب محمود جلال بايار الذي حُكم عليه بالإعدام، ثم خُفف لاحقًا إلى السجن المؤبد بسبب عمره - توفي في إسطنبول سنة 1986 عن عمر ناهز 103 عاماً -، بينما أُعدم ثلاثة، وكان مندريس آخر من نُفذ فيه الحكم، رغم أنه حاول الانتحار بأخذ كمية من الأقراص المهدئة داخل زنزانته، لكن الأطباء أنعشوه وأجبروه على المثول أمام منصة الإعدام. وروى الحراس وأطباء السجن أنّه قال قبل تنفيذ الحكم: « اللهم، ارحم هذا الشعب، وأحفظ وطني، وإني اقدم حياتي فداءً له. قد يكون هذا مصيري، ولكنني أترك وطني وأبناء شعبي بين أيدي الله«. ثم تلا الشهادتين: « أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله». وقيل إنه قبيل أن يُساق إلى المشنقة التفت إلى من حوله قائلاً : « إلى اللقاء أيها الوطن العزيز» .
في صبيحة يوم اعدام عدنان مندريس 17 أيلول/ سبتمبر 1961 صدرت جريدة « حريّت Hürriyet « التي تُعَد واحدة من أكبر الصحف اليومية التركية، وهي تحمل العنوان الأبرز « مانشيت»:  Zorlu ve Polatkan Idam Edili  أي» إعدام زورلو وبولاتكان»، والمقصود وزير الخارجية فطين رشدي زورلو، ووزير المالية حسن بولاتكان. كما حملت عنواناً فرعياً يقول : بسبب مرض عدنان مندريس لم يُنفذ حكم الإعدام بحقه أمس« والحقيقة أن مندريس كما أشرنا سابقاً، قد تناول جرعة دواء لمحاولة الانتحار قبل الإعدام، فنُقل إلى المستشفى، وتأجل تنفيذ الحكم يوماً واحداً«. وتظهر صورة لمندريس مع بعض المسؤولين أثناء المحاكمة في جزيرة ياسّي أضا التي حوكم فيها مع رفاقه. وفي أسفل الجريدة إشارة إلى محاولة زوجته السيدة بدرين مندريس الاستعطاف والتواصل مع قادة الأحزاب السياسية لتخفيف الحكم، غير أن استغاثتها بالطبع لم تثمر شيئاً. وفي ذكرى اعدامه الخامسة والخمسين التي مرت عام 2016، نقلت وكالة « ترك برس» عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رسالة قال فيها إن عدنان مندريس كان رجل دولة بامتياز، وأنه دافع عن النظام الديمقراطي طوال فترة حكمه الذي امتد لمدة عشر سنوات، وأن الشعب التركي سيذكره بالخير لما قدّمه من خدمات كبيرة للدولة والشعب .
لم يكن الحكم على عدنان مندريس قراراً قضائياً فحسب، بل كان رسالة سياسية دامية بأن الديمقراطية الوليدة لا يمكنها تجاوز وصاية العسكر. لكن ذاكرة الأتراك لم تنسه بعد أن أعاد البرلمان الاعتبار إليه ولرفيقيه، ونُقلت جثامينهم إلى إسطنبول حيث أُقيم له ضريح يليق برجل تحوّل إلى رمز للديمقراطية والشعبية. ومنذ ذلك الحين صار المكان مزاراً لرؤساء الجمهورية والوزراء والبرلمانيين، للترحم على «ضحايا المشانق» في مرحلة اختلطت فيها العدالة بالسياسة .
وتبقى صورة مندريس على حبل المشنقة ـ والورقة المعلقة على صدره ـ شاهداً مؤلماً على مرحلة من تاريخ تركيا، حين قررت بنادق العسكر مصير زعيم مُنتَخب، دفع حياته ثمناً لأول انقلاب عسكري في تاريخ تركيا الحديثة.


تابعنا على
تصميم وتطوير