الحلم والواقع:
حين وُلدت فكرة الديمقراطية، حملت معها توق الشعوب للكرامة،
وحقّ الأفراد في أن يكونوا شركاء في صناعة المصير.
جاءت الديمقراطية وعدًا بالحرية، ومشروعًا للمساواة، وإعلانًا بأنّ الحكم لا يستقيم إلا بإرادة الناس.
حينَ يُمنَح الإنسانُ حق الاختيار، يشعر بأنّه جزء من الكيان، وحين يُستمع لصوته، يدرك أنّه مرئيّ، وحين يُحتَرم رأيه، يشعر بأنّه وُجِد من أجل غاية نبيلة.
ما تُنجزه الديمقراطية:
تفتح الديمقراطيةُ المجال أمام الشفافية، وتؤسس لمجتمع تُوزَّع فيه السلطات وتُحاسَب فيه القرارات. يتمكّن فيها الفرد من التعبير، وتنتظم بها العلاقات بين الحاكم والمحكوم وفق قاعدة القانون.
من آثارها البنّاءة:
نشوء أحزاب وطنيّة تعبّر عن التنوّع ، حضور قوى رقابية مستقلة ، تداول سلمي للسلطة، انفتاح إعلامي يُتيح المعرفة والمساءلة، انتقال القيادة من فئة إلى أخرى وفق الإرادة العامة في ظلها، تُصان الحقوق، وتُحمى الحريات، ويشعر كل فرد بأنّ رأيه لا يُهمل، وبأنّ الكرامة لا تُختزل في خطب المناسبات.
ما تُعانيه الديمقراطية :
عندما يُختَزلُ مفهومُ الديمقراطيةِ في صندوق اقتراع، وتُدار الانتخابات بحسابات المال والنفوذ، تبدأ التشققات. فيتراجع الحضور الشعبي الفعّال، ويصعد الصوت الأقوى تمويلًا، وليسَ الأكثرُ وعيًا.
وفي بيئات هشّة، قد تتحوّل المشاركة السياسية إلى صراع نفوذ، وتُجرّ المؤسسات إلى التبعية، وتُهمَّش الكفاءات لصالح الولاءات. تتأثر التجربة بعدّة عوامل، منها:
ضعف الثقافة السياسية، غياب التربية المدنية، انتشار العزوف الشعبي، تراجع ثقة الناس بالمنظومة، تحوّل بعض الزعامات إلى مراكز نفوذ شخصي، تتآكل الديمقراطية حين يُفرّغ مضمونها،
ويُدار شكلها من دون جوهر.وعندما تغيب العدالة، تتآكل المشاركة، ويبتعد المواطن عن الشأن العام رويدًا رويدًا.
هل تنجح الديمقراطية دائمًا :
لم تعد الديمقراطيةُ وصفةً جاهزةً،
إنما بيئةٌ تتطلّبُ بناءً مستمرًّا. تُثمر حين تتجذّر في الثقافة العامة، وتنمو حين تُحاط بمؤسسات نزيهة، وتستقرّ عندما تُحمى من التوظيف الفئوي أو المزاجي.
في مجتمعات نضجت تجربتها، تُدار الخلافات من داخل النظام، وتُعبّر النُخب عن رؤى متنوعة دون كسر القاعدة الوطنية.
أما في السياقات الهشّة، فتتعثر التجربة، وتتداخل أدوات السيطرة مع أدوات التعبير.
ما الذي يُبقيها حيّة :
تربية سياسية تبدأ من المدرسة، قانون انتخابي عادل، شفافية في إدارة الدولة، استقلال فعلي للقضاء، حماية للحقوق دون انتقائية، إعلام يواكب الواقع لا يُضلّل الناس، قيادات تؤمن بأنّ الحكم تكليف ثقيل، بعيداً عن ان يكون تشريفاً عابراً.
عندما تُصبح الديمقراطية أسلوب حياة، وحين تنسجم القيم مع القوانين، وحين يتوازن الوعي مع الأدوات، تتحوّل من نظام سياسي إلى مناخ حضاري.
في اليوم العالمي للديمقراطية، تُسلَّط الأضواء على الشعارات، لكن الأجدر هو تسليطها على التحديات. يبدأ الاحتفال الحقيقي حين تُراجع التجارب، وتُصوَّب المسارات، ويُعاد الاعتبار لقيمة المواطن، فهو أصل الحكاية… ومبتدؤها ومُنتهاها.
تنجح الديمقراطية حين تُصان، وتضعف حين تُستَغل. تتقدّم حين تُبنى من القاعدة، وتتراجع حين تُدار من القمّة وحدها.
وما بين هذه وتلك… يُصاغ وجه الأوطان. فهل من مُدّكر؟!