رغم امتلاك العراق لإرث تاريخي وثقافي من أقدم الحضارات الإنسانية، ورغم كونه أحد أولى الدول العربية التي شهدت تأسيس مؤسسات الدولة الحديثة، فإن مسار الحداثة فيه ظل متقطعًا، هشا، وعصيا على الاكتمال. يتكرر السؤال عامًا بعد عام. لماذا لا يدخل العراق فعليًا إلى زمن الحداثة؟ ولماذا يتراجع كلما اقترب من عتبته؟
أولًا: الحداثة ليست بنايات… إنها أفكار
شهد العراق توسعًا عمرانيًا ملحوظا منذ الثلاثينات، وشهدت مدنه نماذج معمارية حديثة، إلا أن ذلك لم يترافق مع تحديث بنية العقل الجمعي. فبينما ارتفعت المباني، ظلت مفردات الحياة السياسية والاجتماعية محكومة بأنماط تقليدية. الطائفة، العشيرة، السلطة الأبوية، والمقدسات غير القابلة للنقد.
الحداثة الحقيقية لا تكون في المظهر فقط، بل في إعادة تعريف العلاقة بين الفرد والجماعة، بين التفكير الحر والانتماء، وبين المؤسسات والقيم.
ثانيًا: غياب الفرد كمحور فكري
لم تكن الحداثة في الغرب مجرد تطور تقني، بل تحولًا فلسفيًا قائمًا على تحرير الفرد من السلطة المطلقة للجماعة. أما في العراق، فقد بقي الفرد تابعًا لمنظومات أعلى منه, حزب، مرجعية، قبيلة، أو سردية تاريخية شمولية.
هذا الغياب للفرد الواعي المنتج يعيق أي محاولة حقيقية لبناء ثقافة حداثية، ويترك المجتمع في حالة ولاء دائم، بدلاً من النقد والمشاركة الفعلية.
ثالثًا: الحروب كقوى مضادة للحداثة
منذ منتصف القرن الماضي، دخل العراق في سلسلة من الحروب والانقلابات والصراعات الداخلية والخارجية، ما أدى إلى تدمير مستمر للبنى التحتية الثقافية والتعليمية. كل مشروع حداثي ولد، سرعان ما أُجهض إما بسبب تغير النظام أو احتدام الصراع.
لقد سرقت الحروب الزمن، ولا يمكن للحداثة أن تنمو في أرض تعاد فيها البدايات في كل لحظة.
رابعًا: الحداثة الشكلية بعد 2003
بعد عام 2003، ظهر عراق جديد ظاهريا ,تنوعت وسائل الإعلام,انتشرت منظمات المجتمع المدني, وارتفعت شعارات الحرية وحقوق الإنسان لكن الكثير منها ظل ضمن إطار «الحداثة الشكلية»، إذ لم تصاحبها نقلة معرفية حقيقية. تم استيراد مفاهيم ما بعد الحداثة (الهوية ،الفردانية) دون المرور بتجربة الحداثة نفسها، مما أدى إلى تفكك السردية الثقافية الكبرى دون بديل واضح.
خامسًا: حداثة بلا جذور
لم تصغ الحداثة العراقية من الداخل، بل جاءت كوصفات جاهزة من الخارج وحاولت أنبات نبتة في أرض صحراوية قاحلة. لم تراع السياق الثقافي، ولا الخصوصية التاريخية. غاب الحوار الفلسفي حول التراث، واختزل في ثنائية التقديس أو الإلغاء.
الحداثة لا تقوم على القطيع، بل على التجاوز الواعي. وهذه الخطوة لم تنجز بعد. وفي الختام دعوة الئ الجيل الجديد , الحداثة ليست حدثًا مؤسساتي فحسب، بل مسار طويل يحتاج إلى إرادة ثقافية وفردية. على الجيل الجديد أن يرفض التكرار، وأن يبني مفاهيمه بوعي لا ولاء فيه، أن يعيد تعريف الهوية دون أن يقصي أحدًا، وأن ينصت للذات العراقية العميقة لا للضجيج المفروض من الخارج أو من الماضي.
إن الحداثة تبدأ عندما نطرح السؤال بصدق: من نحن؟ وما الذي نريده من الزمن القادم؟