تُعَدّ القادرية والرفاعية من أكثر الطرق الصوفية شهرة واعتماداً على المدائح النبوية والقصائد في جلسات الذكر، ولا سيما قصيدتي البُردة والهَمزية في مدح خير البرية للإمام البوصيري، وأشعار العشق الإلهي لابن الفارض، وغيرهما من شعراء التصوف. وفي تكية الحاج سنان وسط سراييفو القديمة، حيث حضرنا جلسة ذكر أدارها الشيخ سعد خليلاغيتش، تنوعت الأوراد والمدائح والأذكار، على نحو يشبه ما يجري عادة في التكايا القادرية التي تُنشد فيها عادة قصيدة تُنسب إلى الشيخ عبد القادر الكيلاني في الفخر بنفسه ونسبه، وتعرف باسم القصيدة الجيلانية أو الغياثية، وفيها يستغيث المنشدون بالشيخ باعتباره غوثاً ومدداً روحياً: « يا قطب بغداد الجليل / يا غوثَ ربّ جليل/ مدد يا سيدي عبد القادر/ يا شيخنا يا معين». ومن الطبيعي أن تختلف الكلمات في النسخ المتعددة من هذه القصيدة بين بلد وآخر، غير أن المعنى الروحي يبقى واحداً. وقد تناول الروائي والباحث المصري يوسف زيدان بعض هذه الأشعار في دراساته عن التصوف، فجمع وحقق عدداً من القصائد الصوفية والمقالات الرمزية التي نشرها تحت عنوان « ديوان عبد القادر الجيلاني»، وأهداه إلى شيوخ القادرية الذين وصفهم بأنهم « يغرسون بذور النور في أرض الظلمة». وقد استخرج زيدان نصوص الكيلاني من مخطوطات أصلية في مكتبات عدة، منها مكتبة الأزهر، مكتبة بلدية الإسكندرية، مكتبة الإسكوريال، ومكتبة الحضرة القادرية في بغداد، التي تضم مخطوطة « القصيدة الغوثية». وقد جاء في مطلعها : « سقاني الحبُ كاساتِ الوصالِ/ فقلتُ لخمرتي نحوي تعالي»، وفي خاتمتها: « أنا الجيلي محي الدين اسمي/ وأعلامي على رؤوس الجبالِ/ وعبد القادر المشهور نسبي/ وجَدي صاحبُ العين الكمالِ» .
بعد نهاية جلسة الذكر، عرّفتُ الحضور بنفسي، وأخبرتهم أنني قادم من بغداد التي تحتضن أضرحة ومراقد كبار أقطاب التصوف، وفي مقدمتهم القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ عمر السهروردي، وأبو بكر الشبلي، وبشر الحافي، فضلاً عن أعلام آخرين مثل معروف الكرخي، والجنيد البغدادي، والسري السقطي، وذو النون المصري، والبهلول الكوفي، وأبو منصور الحلّاج وغيرهم. وكان الشيخ خليلاغيتش يترجم كلماتي بما يفهمه منها، وبما تسعفه معرفته المتواضعة بالعربية، فينصت الجميع باهتمام وهم يحتفون بالقادم من المدينة التي طالما حلموا بزيارتها، وبزيارة ضريح شيخهم الكيلاني الذي يجلّونه بألقاب عديدة، منها الباز الأشهب، والغوث الصمداني، والقطب الرباني، والمحبوب السبحاني، والقنديل النوراني. صافحتُهم واحداً واحداً، وهم ما زالوا في نشوة الانتهاء من جلسة الذكر الصوفي. وعند عتبة باب الغرفة المطلة على الرواق الداخلي للتكية، كانت نسمات الهواء البارد تُنعش أجواء سراييفو في تلك الليلة من منتصف حزيران/ يونيو، بينما الأرض المرصوفة بحصى ناعمة مستديرة ذات ألوان بنية وصفراء تلمع تحت ضوء المصابيح مثل عيون الدراويش في تلك الأمسية الروحانية .