في ذاكرة الشعر العراقي الحديث، يظل اسم ياسين طه حافظ واحداً من أبرز الأصوات التي جمعت بين صفاء الرؤيا الشعرية وعمق التجربة الإنسانية. شاعرٌ حمل مشروعه الإبداعي أكثر من نصف قرن، متنقلاً بين فضاءات الشعر والترجمة والعمل الثقافي الصحفي، ليكون جسراً بين جيل الريادة وجيل الستينيات، وصوتاً متفرّداً ظلّ وفيّاً لقصيدة الرؤيا وللتجريب الفني الذي يستنطق الجمال والمعنى معاً. لم يكن مجرد شاعر يكتب، بل مثقف شامل، مترجم بارع، وصحفي حمل همّ الثقافة العراقية إلى العالم.
نشأته
وُلد الشاعر والمترجم والصحفي العراقي ياسين طه حافظ سنة 1936 في بغداد . أكمل دراسته الابتدائية في مدرسة الفضل ببغداد، ثم واصل مراحله الدراسية في بعقوبة. تخرج عام 1961 في كلية التربية – جامعة بغداد ، قسم اللغات الأجنبية، وتخصص باللغة الإنجليزية. حصل على دورات متقدمة في بريطانيا وفي المعهد البريطاني ببغداد وكلية بغداد، مما عزز خبرته في الترجمة واللغة.
العمل الثقافي والإعلامي
بدأ حياته المهنية مدرسًا للغة الإنجليزية، قبل أن يتجه إلى الصحافة الثقافية. عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة الطليعة الأدبية، ثم أصبح رئيس تحرير مجلة الثقافة الأجنبية منذ صدورها، وهي واحدة من أهم المنابر العراقية التي عرّفت القارئ العربي بالأدب العالمي. كما كان عضوًا في اتحاد الأدباء العراقيين، ومثّل العراق في مهرجان ستروكا الشعري في يوغوسلافيا.
التجربة الشعرية
بدأ ياسين طه حافظ كتابة الشعر في ستينيات القرن الماضي، فكان امتدادًا للجيل المؤسس لشعر التفعيلة (السياب، البياتي، والملائكة)، لكنه حمل أيضًا بصمته الخاصة. لغته الشعرية بقيت متأرجحة بين جمالية الريادة الأولى وانفتاحها على التجديد، وبين تقنيات الحداثة التي سادت لاحقًا.
ظلّ وفيًا لقصيدة الرؤيا، ومخلصًا لتجربة شعرية تنقل الحدث الشخصي إلى أفق إنساني أوسع، وهو ما جعل شعره يجمع بين البعد الجمالي والبعد الحضاري .
مؤلفاته الشعرية
للشاعر رصيد كبير من الدواوين التي تمتد على أكثر من نصف قرن، من أبرزها:
الوحش والذاكرة (1969)
قصائد الأعراف (1974)
البرج (1977)
النشيد (1978)
عبد الله والدرويش (1980)
الحرب (1985)
قصائد في زمن الخرب (1986)
ليلة من زجاج (1987)
قصائد السيّدة الجميلة (1988)
في الخرائب حلية ذهب (1992)
الأعمال الشعرية (1997)
ولكنها هي هذي حياتي (2012)
في الخريف يطلق الحب صيحته (2012)
سمفونية المطر (2013)
قصائد حب على جدار آشوري (2013)
مخاطبات الدرويش البغدادي (2014)
حكمة البحر (2017)
الترجمة والإبداع المعرفي
لم يقتصر عطاؤه على الشعر، بل قدم ترجمات أدبية مهمة، أسهمت في تعريف القارئ العراقي والعربي بالأدب العالمي الحديث.. من أبرز ترجماته:
يوميات رامبرانت (1985)
قلعة المصائر المتقاطعة – إيتالو كالفينو (1992)
ولم يقل كلمة – هاينريش بُل (1998)
العنف والنبوءة: قصائد مختارة – وليم بتلر ييتس (2000)
مدن لا مرئية – إيتالو كالفينو (2004)
السيد بالومار – إيتالو كالفينو (2018)
بيكاسو – جيرترود ستاين (2019)
كما أصدر مختارات شعرية مترجمة مثل:
شعراء من الحرب العالمية الأولى (2016)
القمم العالية: قصائد مختارة لعشرة شعراء من العالم (2016)
الرؤية الشعرية والفكرية
شكّل ياسين طه حافظ جزءًا أساسيًا من جيل الستينيات الشعري في العراق، ذلك الجيل الذي جاء بعد رواد الخمسينيات، محمّلًا بروح التمرد على القوالب القديمة.
امتاز شعراء الستينيات – ومنهم ياسين – بالجرأة على التجريب، والسعي وراء قصيدة الرؤيا ، حيث يتحول النص إلى فضاء مفتوح للتأمل والتمرد والحداثة.
لقد كان شعره انعكاسًا لمرحلة سياسية وفكرية عصيبة، تأثرت بالخيبات والانكسارات الكبرى مثل هزيمة 1967 ، وصعود التيارات الفكرية العالمية كـ»الوجودية» والثورات الطلابية.
شعره بين الرومانسية والحداثة
جمع شعره بين الحلم والواقع، وبين الحنين والوعي النقدي. ورغم اقترابه من قاموس السياب والبياتي، إلا أن تجربته اتخذت مسافة خاصة، جعلته قادرًا على أن يكتب نصًا حديثًا، وفي الوقت نفسه يظل وفيًا للتجربة الشعرية العراقية العميقة.
اتحاد الأدباء يحتفي بالشاعر
تحت سقف قاعة الجواهري في الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، وبشراكة ثقافية مع دائرة العلاقات الثقافية العامة في وزارة الثقافة والسياحة والآثار، أقيم مساء الثلاثاء 15 تموز احتفاءٌ استثنائي بالشاعر والمترجم الكبير ياسين طه حافظ، بعد اختياره من قِبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) رمزاً للشعر العربي لعام 2025.
كان الاحتفاء محجّاً لرموز الأدب والثقافة في العراق، حيث افتتح الأمين العام للاتحاد الشاعر عمر السراي الجلسة التي أدارها، متحدثاً عن قامة إبداعية عراقية وعربية وعالمية، قدّمت للشعر والإنسانية ثروة لا تُحصى من الجمال والمعرفة. وصف السراي المحتفى به بـ»النخلة الباسقة» التي ظلّت تمد ظلّها على الأجيال، وبالمعلم الذي علّم أبناءه كيف يبتسمون وكيف يرصّفون الكلمة فوق الكلمة. وأكد أن اختيار الألكسو لياسين طه حافظ لا يمثّل تكريماً مؤسساتياً فحسب، بل هو اعتراف شعبي وأدبي بكونه رمزاً متجدداً للإبداع العراقي.
وعندما اعتلى ياسين طه حافظ المنصّة، تحدث بصدق يليق بشاعر خبر دروب الكلمة، قائلاً: *»لم أكن أعوّل على أن تحتفي بي الكتابة يوماً، بل بدأت وأنا متوجس من عواقبها. كنت أعلم أن خلف الكلمة أثقالاً، لذلك كنت أكثر حذراً من أن أكون فرحاً». واستعاد بداياته مع الشعر، وكيف كان طفلاً مشاكساً لا يرضى بالمألوف، مؤكداً أن روح التمرّد رافقته من أول قصيدة كتبها حتى آخر سطر.
وتوقف حافظ عند أثر القراءة في مسيرته، مشدداً على أن الكتابة الجيدة لا تولد إلا من قراءة عميقة واعية، إذ قال: »لتكتب جيداً، اقرأ جيداً. لا تكتفِ بقراءة النص، بل اقرأ ما قبله وما يحيط به». وأشار إلى أثر القرآن الكريم وتفاسيره في إثراء وعيه الثقافي، موضحاً أن تنوّع القراءات بين النحو والمنطق والفكر الاجتماعي يخلق ثقافة راسخة، بعكس القراءة العابرة التي لا تترك أثراً. وضرب أمثلة من تجربته مع المعلقات الشعرية، مؤكداً أن التعمّق في الكلمة يفتح أبواباً جديدة للمعنى.
كما تحدّث عن علاقته بالموسيقى والرسم، وعن دور الشاعر النضالي في تبني قضايا الإنسان، معتبراً الشعر عملاً فردياً خلاّقاً يتطلب خزّاناً معرفياً من القراءات والترجمات والتجارب الحياتية. ولم ينسَ أن يوصي بالحفاظ على الاستمرارية: حتى إن لم تجد صدى مباشراً، امضِ في طريقك بخطوات مختلفة ، قالها وكأنه يوجّه رسالة للشباب.وفي ذروة الجلسة، صعد رئيس الاتحاد الشاعر الدكتور عارف الساعدي ليقدّم نصباً تذكارياً لياسين طه حافظ، واصفاً إياه بالرمز الشعري والثقافي لأكثر من نصف قرن، ثم أعلن مفاجأة الحفل: تنصيب حافظ رئيساً فخرياً للاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، وسط تصفيق مدوٍّ من الحضور.
كما ألقى المدير العام لدائرة العلاقات الثقافية، الدكتور علاء أبو الحسن، كلمة اعتبر فيها اختيار الألكسو للشاعر ياسين طه حافظ إنجازاً وطنياً لافتاً، مؤكداً أنه أول تكريم عراقي من المنظمة منذ أحد عشر عاماً.واختتم الاحتفاء بعرض فيلم وثائقي تناول ملامح مسيرة المحتفى به الإبداعية، قبل أن يتوّج الشاعر الأمسية بقراءات شعرية اختارها من أعماله، حملت بصمته الفريدة وتجربته الحيّة، ليغادر الحاضرون القاعة وهم يرددون أن هذا اليوم ليس تكريماً لرجل واحد، بل احتفاء بذاكرة الشعر العراقي كله.
الخلاصة
ياسين طه حافظ شاعرٌ عراقي متميز جمع بين الإبداع الشعري والترجمة الأدبية والعمل الثقافي الصحفي.. مثّل حلقة وصل بين جيل الريادة وجيل الستينيات، وحمل مشروعًا شعريًا حداثيًا ظل يتطور أكثر من نصف قرن.. قصيدته تُقرأ اليوم بوصفها شهادة على زمن التحولات السياسية والفكرية في العراق والعالم، وعلى قدرة الشعر أن يظل مرآة للوعي والإنسانية.