ما إن دخلنا الغرفة المفروشة بالسجاد الشرقي في تكية الحاج سنان، ورأينا الشيخ سعد خليلاغيتش وامامه منضدة منخفضة من خشب الصاج المزخرف، حتى بدأت جلسة الذكر. استقبلنا الرجل الخمسيني ذا العينين الخضراوين بابتسامة ودودة مرحباً، ثم أوعز إلى المريدين الجالسين في صفين متقابلين، على هيئة الأدب الصوفي، بالبدء بتلاوة سورة الفاتحة والصلوات، وذكر الأولياء ومشايخ الطريقة القادرية . بعد ذلك انتقل الجمع إلى قراءة الأوراد «الأذكار الهادئة»، والتهليل بقول «لا إله إلا الله»، والاستغفار بقول «أستغفر الله»، بصوت منخفض يهيئ القلوب تدريجياً إلى مرحلة أخرى من الذكر الجهري، بترديد «الله .. الله»، أو «هو.. هو» مع اهتزاز الجسد وإمالة الرأس والصدر، وصولاً إلى ذروة النشوة الروحية حيث يتسارع الإيقاع وترتفع الأصوات بترديد : «الله حيّ .. الله حيّ». ثم يعود الجمع إلى السكينة لختم الجلسة بتلاوة دعاء جامع يدعوه الشيخ، وقراءة الفاتحة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آل بيته الطاهرين وصحبه الميامين، والدعاء لأهل التكية والمريدين وسائر المسلمين.
لم يكن أمامي أنا ورفيق رحلتي أيمن إلّا الانضمام إلى الحلقة دون مقدمات، فوجدنا أنفسنا نردد مع الحضور الأوراد والتهاليل والاستغفار، و « هو.. هو»، و « الله حيّ .. الله حيّ»، ونهتز برؤوسنا يميناً وشمالاً. وبين لحظة وأخرى كان الشيخ سعد يُسبح بمسبحته، ثم يومئ لهذا المريد أو ذاك ليتلو آيات من الذكر الحكيم، حتى انتهت الجلسة، وشعر الجميع بالطمأنينة والسكينة. بعد ذلك وُزعَّت الحلوى واقداح الشاي على الحضور، فيما تهيأ المنشدون حاملو الدفوف لبدء إنشاد القصائد الصوفية في المحبة الإلهية ومدح الغوث الأعظم الشيخ عبد القادر الكيلاني، باللغة التركية العثمانية التي بقيت لغة جلسات الذكر في زوايا البلقان وتكاياه، مع تكرارات وردود بالعربية. وتُعرف هذه النصوص الصوفية باسم «نُطق شريف»، ومعظمها يعود إلى العاشق سليمان مظفر أفندي، أحد اعلام مشايخ الصوفية ومريدي الطريقة القادرية ومن أبرز منشديها. ولد في إسطنبول في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان يوقّع قصائده بكنية عاشق، وهي تسمية مألوفة بين الشعراء والمتصوفة العثمانيين. ومن أشهر قصائده تلك التي يمدح فيها «الغوث الأعظم» : زهرةُ المرتضى.. طريقُ المجتبى .. عالم أسرار الأصفياء.. برهان الأتقياء.. القطب سلطان عبد القادر كيلاني». ويستمر المنشدون في إنشاد قصائده على وقع الدفوف الكبيرة : « يا رسول الله، أنت رحمة للعالمين .. يا محبوب الأرواح .. يا رسول الله».
كانت أصواتهم تتدفق كأنها شلّال من نورٍ في ليل سراييفو الهادىء، وكنتُ أبتسم وأنا أراقب دهشة أيمن، الذي شهد للمرة الأولى مثل هذه الجلسة، يردد معهم: «حيّ .. حيّ .. هو.. هو»، محدّقاً بعينيه ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، كأنّه في حلمٍ من أحلام اليقظة، أو في وهمٍ من نسج الخيال! .