رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
حين تصير الجغرافيا خبراً: مدننا التي عرّفت العالم بنا


المشاهدات 1789
تاريخ الإضافة 2025/09/06 - 10:11 PM
آخر تحديث 2025/09/16 - 12:17 AM

لم يكن العالم بحاجة إلى خرائط مفصّلة ليعرف العراق أو غزة أو غيرهما من مدن العرب. الأخبار وحدها قامت بالمهمة، فصارت أسماء مدننا وقرانا وأحيائنا تطرق أسماع الشعوب بلغاتها المختلفة، لتتحوّل الجغرافيا اليومية البسيطة إلى رموز كبرى للحرب والمأساة، وأحياناً للمقاومة.
في العراق، لم تعد الفلوجة مدينة صغيرة على ضفاف الفرات، بل غدت اسماً عالمياً منذ معركتها الأولى عام 2004. يكفي أن تذكرها حتى يستحضر الناس صورة المواجهة الدامية بين جيش الاحتلال الأميركي ومقاتلين محليين. كذلك، أصبحت الموصل عنواناً للمدينة التي سقطت بيد تنظيم “داعش” عام 2014، ثم مسرحاً لمعركة التحرير التي حررت حجارتها وأهلها معاً. أما البصرة، فلم تعد في عين العالم ميناء النفط وحده، بل مدينة الاحتجاجات التي دوّت شعاراتها في نشرات الأخبار العالمية.
وغدت أحياء وأزقة أكثر تواضعاً شهيرة رغم أنفها؛ فـ مدينة الصدر في بغداد، وسامراء بمرقدها، وتكريت بمفارقاتها السياسية والأمنية، كلها دخلت سجل الذاكرة العالمية عبر شاشات الأخبار لا عبر الكتب المدرسية.
أما في غزة، فقد أعادت الحروب تعريف المكان بأبعاده كلها. فالعالم بات يحفظ أسماء أحياء مثل الشجاعية ورفح وخان يونس وجباليا، لا بوصفها محطات سفر أو سياحة، بل باعتبارها مسارح لمجازر وصمود. يكفي أن تقول برج الشفاء أو مستشفى الأهلي حتى يستحضر المتلقي صورة الدم والركام والصرخات.
ولبنان بدوره قدّم للعالم خريطةً من أسماء المدن التي صارت تعني أكثر من جغرافيتها. فمن صبرا وشاتيلا حيث جُبل الدم بالتاريخ، إلى جنوب لبنان حيث تحول بلدات مثل بنت جبيل وعيترون إلى رموز للمقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وصولاً إلى بيروت التي لطالما وُصفت بأنها “مدينة لا تموت”، بعدما أعادت الحرب الأهلية، ثم حرب تموز 2006، رسم صورتها في ذاكرة العالم.
وفي سوريا، صار العالم يحفظ أسماء مثل حلب، والغوطة، وداريا، وحمص. لم تعد هذه المدن مجرد جغرافيا محلية، بل أمست عناوين كبرى لصور الدمار والحصار والبراميل المتفجرة، قبل أن تصبح رموزاً لصمود أسطوري، وإرادة حياة في وجه آلة الموت.
أما اليمن، فقد عرفه العالم من خلال صعدة وتعز والحديدة وعدن. مدن صارت تتردد في نشرات الأخبار، إما كمسرح للحرب المستمرة منذ سنوات، أو كبؤر إنسانية مأساوية وصور جوع وأوبئة. لكن اليمن أيضاً قدّم صورة أخرى من العناد والبقاء، إذ ظل اسمه يقترن، رغم النزيف، بـ”أرض الحكمة” التي تقاوم النسيان.
إنها مفارقة مؤلمة: أن نتعرف على أنفسنا أمام العالم من خلال موتنا أكثر مما نتعرف من خلال حياتنا. لقد تحولت الجغرافيا المحلية إلى ذاكرة كونية، تُكتب بأخبار عاجلة وصور متسارعة، حتى أن طفلاً في أوروبا قد يسمع اسم حي الرمال في غزة أو بنت جبيل في لبنان أكثر مما يسمع عن حارات مدينته.
ورغم ذلك، يبقى في هذا الحضور القسري بعدٌ آخر: فالأسماء التي اقترنت بالموت، ارتبطت أيضاً بالصمود. من حيفا واللد قديماً، إلى غزة والموصل وحلب وصعدة حديثاً، نجد أن هذه المدن تكشف عن طاقة هائلة على البقاء، لتذكّر العالم أن تحت الركام حياة لا تموت.
وهكذا، صارت مدننا مرايا للتاريخ، تحفر أسماءها في ذاكرة البشرية، لا لأننا أردنا أن نكون عناوين الحرب، بل لأن الحرب فرضت علينا أن نكون الجغرافيا التي لا تُنسى.


تابعنا على
تصميم وتطوير