يعيش العالم على وقع نسخة مشوّهة من أحداث سابقة تعلّقت بالقضية الفلسطينية ، ذات ديسمبر 1988 عقدت الجمعية العامّة للأمم المتّحدة جلستها في العاصمة السويسرية جنيف ، وكان السبب وقتها رفض الولايات المتّحدة منح تأشيرة الدخول للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لحضور الاجتماعات في نيويورك . ومثّل الحدث حينها خطوة هامة في سياق دولي إيجابي للقضية الفلسطينية وفي سياق داخلي تميّز بتحقيق الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي بدأت في ديسمبر 1987 ، لبعض المكاسب السياسية الهامّة . وكانت ردّة الفعل الدولية قوّية وحاسمة ضدّ الرفض الأمريكي منح التأشيرة للراحل عرفات ، وحصل الإجماع على أنّ السلوك الأمريكي هو إنتهاك صارخ لاتّفاقية المقرّ المبرمة بين الأمم المتّحدة والإدارة الأمريكية ، وهو إلى ذلك ضرب لحيادية المكانُ، وتقرّر تبعا لذلك نقل الإجتماعات إلى جنيف . ويكاد التاريخ يعيد نفسه هذه الأيام ، إذ أعلنت الولايات المتحدة حرمان كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية بمن فيهم الرئيس محمود عباس من الحصول على تأشيرات لدخول البلاد وإلغاء التأشيرات الحالية لمنعهم من حضور الاجتماع المقبل للجمعية العامة في نيويورك ، ومرّة أخرى لقي القرار الأمريكي إدانة واستهجان دولييْن واسعين ، واكتفت الخارجية الفلسطينية فيما يبدو بالتعبير عن مجرّد استغرابها من هذا القرار المناقض للقانون والعرف الجاري به العمل .
وأخطر من قرار رفض التأشيرةِ هذه المرّة هو التبرير الذي قدّمته إدارة ترامب إِذْ إعتبرت أنّ ، من مصلحة الأمن القومي الأمريكي أن “ تقع محاسبة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية على عدم الوفاء بالتزاماتهما وتقويض آفاق السلام” !
واتهمت الخارجية الأمريكية الفلسطينيين بشن “حرب قانونية ” عن طريق لجوئهم إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لمقاضاة دولة الإحتلال، واستنكرت جهودهم للحصول على ما سمته “ اعترافا أحاديا بدولة فلسطينية افتراضية ” .
والواضح أنّ لبّ الموضوع هو أنّ الدولة الفلسطينية تمثّل عائقا أمام المشروع الصهيوني بقبر القضية الفلسطينية نهائيا ، وهو كذلك يحول دون إدارة ترامب وتحويل قطاع غزّة إلى مشروع إقتصادي مربح ، وبالنسبة للطرفين فإنّ الاعتراف بالحقّ الفلسطيني في تكوين دولة مستقلّة تتأسّس على قرارات الشرعية الدولية غير وارد وهو ما يدفع إلى القول بأنّ دولة الإحتلال الصهيوني قد تقبل بمقايضة قطاع غزّة مع الولايات المتحدة مقابل السماح لها بضمّ الضفّة الغربية ، وتتوافق الإرادة الأمريكية والصهيونية مع بعض الأطراف الفلسطينية التي تفتقر لأجندة وطنية .
إنّ خطورة المشروع تكمن من جهة ، في ضعف مناعة السياق الدولي الذي لم يعد يمتلك وسائل مجابهة الصلف الأمريكي والصهيوني ، وفي الداخل الفلسطيني ، في تفتّت الوحدة الوطنية نتيجة غياب الوعي الوطني لبعض الأطراف ، وهي كلّها مؤشرات على إشتعال الضوء الأحمر .