لم يكن دخول الإذاعة بالنسبة له مجرد وظيفة، بل كان تحقيقاً لحلم ظلّ يراوده منذ الصغر. أحب الميكروفون، درّب نفسه بنفسه، حتى أصبح واحداً من أبرز الأصوات التي عرفها المستمع العراقي. المذيع الرائد عبد الواحد محسن، صاحب الصوت الرخيم والحضور المميز، حمل في ذاكرته الكثير من الحكايات عن مهنة المذيع بين الأمس واليوم، وعن الصرامة التي كانت تحكم الأداء في زمنه، حيث كان الخطأ اللغوي يُحاسب عليه بقطع من الراتب، في مقابل واقع مختلف يراه في حاضر الإذاعة والتلفزيون.
في هذا الحوار نستعيد معه تلك الذكريات، ونطل على رحلته بين القصة القصيرة والميكروفون، بين الحلم والواقع، بين صرامة البدايات وإرهاصات التغيير.
* مَن هو عبد الواحد محسن؟
ــ أنا من مواليد البصرة عام 1955، تخرجت من معهد الصحة العالي سنة 1971. قبل دخولي إلى الإذاعة كنت شغوفاً بكتابة القصة القصيرة، أجمع أصدقائي في حديقة بيتنا ونقرأ ونتناقش فيما أكتب. كان مجلساً صغيراً يشبه الصالون الثقافي، ومن بين أصدقائي آنذاك الدكتور خزعل الماجدي، والخطاط روضان بهية، والشاعر والناقد عبد الحسين صنكور. كانوا يخطّون قصصي بأيديهم، بينما كنت أقضي وقتي بين رفوف المكتبة العامة أقرأ الأدب والتاريخ والرواية والشعر.
* وكيف انتقلت من كتابة القصة إلى الميكروفون؟
ــ لطالما حلمت أن أكون مذيعاً. كنت أقلد المذيعين وأقرأ الأخبار من الجرائد على أصدقائي متخيلاً أنني في الاستوديو. ثقتي بنفسي وتشجيع أهلي وأصدقائي جعلتني أقدم على هذه الخطوة.
* وكيف كانت البداية الرسمية؟
ــ سمعت إعلاناً عن حاجة الإذاعة إلى مذيعين. تقدمت بالطلب، ودعيت لاحقاً إلى الاختبار الذي جرى على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى كانت قراءة خبر مشكّل لغوياً، وقد كانت اللجنة برئاسة المرحوم سعاد الهرمزي، ومعه موفق السامرائي وطارق حسين وبهجت عبد الواحد. نجحت في الاختبار، ثم أجريت امتحاناً في المعلومات العامة واللغة العربية، وبعدها أمام الكاميرا في التلفزيون. في النهاية كنت من بين أربعة وعشرين مذيعاً قُبلوا عام 1970، بينهم حارث عبود وسلام زيدان وإبراهيم الحلو وآخرون.
* ماذا شعرت حين عرفت أنك نجحت؟
ــ كانت فرحة لا توصف. أحسست أني حققت أمنية عمري.
* ومتى دخلت العمل فعلياً؟
ــ في منتصف عام 1970، عملت أولاً في قسم البرامج الثقافية مع الزميلة خيرية حبيب. بعدها انتقلت إلى البرامج السياسية، ثم إلى صوت الجماهير، حيث تعلمت أصول المهنة على أيدي كبار الفنانين والمذيعين.
* متى قرأت أول نشرة إخبارية؟
ــ بدأت بموجز للأنباء ليلاً، وهو ما كان مخصصاً للمذيعين الجدد. عندما قرأت أول نشرة رئيسة لم أشعر بخوف أو ارتباك، بل أدّيتها كما ينبغي، حتى أن مدير الإذاعة اتصل بي شخصياً ليشكرني.
* كيف عملت على تطوير نفسك؟
ــ اعتمدت على القراءة المستمرة لكتب اللغة، ودورات في معهد التدريب الإذاعي. كنت أشكّل النشرة بنفسي قبل دخول الاستوديو، وأتجنب الأخطاء قدر الإمكان. في تلك الأيام كان هناك نظام صارم، إذ يُفرض قطع من الراتب على كل خطأ لغوي، وهذا جعل المذيع أكثر حرصاً ودقة.
* هل واجهت صعوبات في النشرات؟
ــ أذكر مرة واجهت مشكلة في لفظ اسم فندق «إنتركونتننتال»، ولم أنجح في نطقه بشكل صحيح رغم محاولاتي العديدة.
* وكيف كانت العلاقة بين المذيع ومحرر الأخبار؟
ــ علاقة تكامل. كان من واجب المذيع أن يحضر قبل موعد النشرة ليطلع عليها ويصحح ما يلزم. المذيع الحقيقي لا يقرأ فحسب، بل هو محرر أيضاً.
* هل جربت النقل الخارجي؟
ــ نعم، قمت بنقل فعاليات كثيرة؛ احتفالات، مسيرات، مهرجانات رياضية، وخطابات رسمية. كان النقل الخارجي فرصة لإظهار مهارة المذيع في الارتجال والوصف المباشر.
* وهل أوفدت في مهمات خارجية؟
ــ أوفدت إلى الأردن والسودان. في السودان قرأت نشرة أخبار على الهواء، وطلب مني وزير الإعلام السوداني أن أعمل معهم في التلفزيون هناك، لكني اعتذرت.
* كيف ترى مذيع اليوم مقارنة بمذيع الأمس؟
ــ في السابق كان المذيع يمر بمراحل إعداد طويلة، يبدأ من الأقسام البرامجية حتى يصل إلى قسم المذيعين، بينما اليوم نجد البعض يبدأ مباشرة من قراءة النشرات، فيسقط في الأخطاء. كان عملنا مؤسسياً صارماً، أما اليوم فالمعايير غابت إلى حد كبير.
* إلى جانب عملك كمذيع، هل واصلت كتابة القصة؟
ــ نعم، كتبت ونشرت العديد من القصص منذ السبعينيات، وأصدرت مجموعتين قصصيتين، وأحضّر الآن لمجموعتي الثالثة.
* وماذا عن البرامج التي أعددتها؟
ــ كثيرة. في الإذاعة: ساعة على الهواء، مع المستمع، صباح الخير يا عراق، لقاء الجمعة، شعر وموسيقى، عندما يأتي المساء. بعد 2003 قدّمت برامج مثل صباح العسل، وأحلى جو وأصوات لا تُنسى. أما في التلفزيون فأعددت، الصحة للجميع، منذ منتصف السبعينيات، والثقافة في أسبوع، في التسعينيات، وبعد 2003 قدمت: مهم جداً، نبض المدينة، نحو غد جديد.
* وأين أنت الآن؟
ــ أُحلت على التقاعد عام 2013 من شبكة الإعلام العراقي. أمارس كتابة القصة بين حين وآخر، وأتوق للعودة إلى الميكروفون، لكنني لا أطرق الأبواب طلباً للعمل، فكرامتي تمنعني.
* ما الذي تركته في ذاكرة الناس؟
ــ ربما «ساعة على الهواء» الذي كان يبث صباحاً، وبرنامج «الصحة للجميع»، ما زلت أسمع من الناس إشادة بهما حتى اليوم. كنت دائماً شغوفاً بالتجديد، حتى لو سبب لي ذلك خلافات مع بعض الإدارات. أدخلت الضحكة في برامج المنوعات لأول مرة، وجعلت المستمع شريكاً في البث المباشر. هذا يكفيني.