رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
تفسير كل شيء بشيء واحد


المشاهدات 1385
تاريخ الإضافة 2025/08/24 - 10:18 PM
آخر تحديث 2025/08/27 - 7:08 PM

  ذهبتُ سنة 1980 بمعية الصديق العزيز د. حسين الفضلي أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت سابقًا، إلى مكتبة في العاصمة الكويتية فنبهنا صاحبُها، وهو رجلٌ كهلٌ يعتنق عقيدةَ جماعة دينية مغالية، إلى كراس بعنوان: «مذكرات مستر همفر»، مدحه كثيرًا، وقال إنه مترجم عن الإنجليزية. اشترينا نسختين، ولكن أول ما لفت نظرَنا عدمُ ذكر اسم المترجِم، ولا الأصل الإنجليزي الذي نقله النصُّ العربي، ولم نعرف من قبل رحالةً ومستشرقًا انجليزيًا باسم «مستر همفر». فور العودة لمقرّ إقامتي قرأتُه في ساعةٍ واحدة، ووجدتُه كلّه أكاذيب، سطرها، بلغةٍ بليدة مبتذلة، شخصٌ مجهول مسكون بالتآمر إطارًا للتفسير. تذكرتُ بتلقائية مؤسفة أمثاله من كتب كنا نتداولها في مراهقتنا السياسية، تتفاوت في الدرجة، وتتطابق في الكيفية والغرض الذي تنشده، مثل كتابات أنور الجندي وأمثاله. ضاعت أيامٌ ثمينة من عمري بقراءة كتبٍ تعتمد التآمرَ إطارًا لتفسير كل واقعة.كلُّ شيءٍ في السياسة وغيرها يحدث في بلادنا تخضعه تلك الكتبُ لهذا النوع من التفسير الأُحادي. وقد كان لتفشي هذه الكتابات أثرٌ فتاك في تزييفِ وعي الشباب، وتخريبِ التفكير السليم. أعترف أني تورطتُ بهذا النهج في بداياتي المنشورة، واصطادني هذا الفخُّ فنشرت قبل نحو 42 عاماً مقالاتٍ بأسماء مستعارة، بُني مضمونُها على تفسيرٍ تآمري لكلِّ ما كان يجري في بلادنا، غاضة النظر عن عوامل التخلّف الداخلية كلها. 
الإنسان يحتاج نفسيًا إلى تفسيرات نمطية عاجلة للأحداث، غير مركبة، وغير عميقة. كثير من الأحداث تعود إلى أكثر من عامل، قسم من العوامل سطحية ظاهرة وأخرى عميقة مستترة في الظلام، البحث في الظلام يرهق الذهن. التفسير التآمري يختزل كل العوامل بعامل واحد، مضافًا إلى أنه تفسير نمطي مكرر يعرفه كلُّ إنسان. هذا ما يجعل البعض يلجأ لاستعمال المؤامرة في تفسير مختلف الأحداث، ويتجاوب مع هذه التفسير الجمهور بلا تفكير. الأخطر في هذا التفسير هو تفسير المعرفة والفنون والآداب الحديثة والثقافة تفسيرًا تآمريا، خاصة لأولئك الذين ينظرون لكلِّ شيء وافد من خارج جدران هويتهم المغلقة نظرة عدائية. ‏محمد البهي مؤلف كتاب: «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»، ومحمد محمد حسين مؤلف كتاب: «حصوننا مهددة من داخلها»، وأنور الجندي مؤلف كتاب: «المؤامرة على الإسلام» وعدد كبير من الكتب في السياق ذاته، وأمثالهم، كلهم مسكونون بالتفسير التآمري للمعرفة والثقافة والفنون والآداب الحديثة. الكاتب الذي ينتمي إلى هوية موغلة في التاريخ،كانت ضحية اضطهاد، وينتمي إلى إثنية عرقية داخل هويته تمنحه تفوقا على غيره، وترتهن مَن ينتمي إليها بجذور راسخة. ‏هذا الكاتب حتى لو كان عقلانيًا نراه يبدأ بمقدمات عقلانية، وينتهي بنتائج اعتقادية هوياتية جزمية.
غالباً ما يلجأ الإنسان الذي لا يفكر بهدوء وتأمل إلى إجابات وتفسيرات جاهزة وساذجة لأعقد المشكلات. فالنكوص الأُحادي الذي يعزو كلَّ ظاهرة وأثر إلى شيءٍ واحد، ويختزل كلَّ الأسباب بسببٍ واحد، جاهزٌ ومُشاعٌ لمن لا يطيق التفكير. إنه حلٌّ عاجل لا يتطلب أيَّ تقصّ، فيشجع كلَّ إنسان، مهما كان مستوى وعيه، للتشبث به، واعتماده كاستنتاج «محصّن» لما يسمع ويرى من وقائع.
ليس كلُّ إنسان قادرًا على إيقاظ عقله ثم توظيفه في الفهم. العقلُ النائم مرتاح، الإنسانُ كسولٌ يزعجُه إيقاظُ عقله، فيلجأ بسهولة لاستعارة التفسيرات الجزافية المتداولة بشكل واسع. عادة ما لايتطلب هذا الميل يقظةً للعقل وتأملًا صبورًا، ولا يدعوه للتقصي عن نسيج العوامل المتشعبة والمتنوعة لإنتاج الواقعة. تداولُ أيّ تفسير بشكل واسع يرسخه، ثم يرتقي به إلى بداهات العقل الجمعي، ويصيّره تالياً حقيقةً نهائية لا تقبل النقاشَ لدى أكثر الناس. التفكيرُ الهادئ لا تطيقه إلا العقولُ الحاذقة، ولا يلجأ إليه إلا إنسانٌ ذكي قادرٌ على تحريض وعيه وتوظيفه من أجل فهم المحسوسات والظواهر والأحداث. التفكيرُ الهادئ الصبور يتوغل في بنية الحالات العميقة، ويكتشفُ العواملَ المستترة للوقائع، فيقدّم بالحفر والتنقيب تفسيرًا لمختلف الأشياء والظواهر والحالات يصل غالباً إلى مدياته الآمنة؛ من خلال التعرف على العوامل الظاهرة والخفية لها. هذا التفكيرُ لا يطيقه كثيرٌ من الناس لأنه مرهِقٌ للذهن، وطالما شغل الإنسانَ عن متع الحياة الحسّية، وعكّر مزاجَه الشخصي.     التآمرُ بوصفة إطارًا لتفسير الأحداث والمواقف الفردية والمجتمعية قديمٌ في التاريخ قدم الإنسان، وخبرته بحماية ذاته والإعلاء منها، وتبريره المتواصل لأخطائه، وعجزه عن الاعتراف بضعفه وهشاشته، والتنكر لكونه كائنًا مطبوعًا على النقص والخطأ. الإنسان بارع في حماية نفسه وتنزيهها والإعلاء منها، ودائمًا ثم دائباً ما يبحث عن مشجب يعلّق عجزَه وفشلَه عليه. لا يختصّ هذا الإطار المشاع والمُستهلَك بفرد أو مجتمع أو ثقافة أو ديانة أو معتقد أو حقل معرفي، وإنما وُجدَ حيثما وجدت أحداثٌ مثيرة ومواقفُ غريبة، ويظهر تغوله في السياسة باستمرار. وقد ازدادت فاعليتُه بشكلٍ لافت، حتى صار أحدَ الظواهر المتفشية في المعرفة العاميّة غير العلمية، والأدبيات الشعبوية للجماعات الراديكالية اليسارية أممية وقومية. وانتقلت عدواه بسهولة بالغة إلى الجماعات الأصولية، الأكثر دراية بمخزونٍ لا ينضب من اللاوعي الجمعي، لتمدّ عنقها عالياً أو عميقاً نحو التآمر بوصفه مجالاً للتفسير. وقد تمرست هذه الجماعاتُ بابتكارِ صيغٍ جديدة للتفسير التآمري لأكثر ما يجري من تحولات وأحداث ومواقف، وغرسِها واستنباتها وتعميمها بسهولة. أمسى إنتاجُ كتابات تعتمد هذا التفسير حرفةً تتخصص بها دوائرُ تمتلك خبرةً مهنية في الحرب النفسية، وبثِّ الشائعات، وصناعةِ الرأي العام، تحترفها أجهزةُ مخابرات الأنظمة الشمولية، ومختلف الحركات اليسارية والقومية والأصولية في بلادنا.   لا أنكر وجودَ مؤامرات، فكلّما كان الإنسانُ أذكى كان أكثرَ دهاء، وأكثرَ قدرةً على ابتكار مختلف الخطط والأساليب والوسائل للتمويه والخداع من أجل بلوغ أهدافه، ما يخفيه مثلُ هذا الإنسان أكثر مما يظهره، إذ يلجأ لتحقيق غاياته إلى مختلف الوسائل.كلّما كانت غاياتُه أعظمَ وأكثرَ عرضةً للرفض والإجهاض كان تخطيطُه أدقَّ وأخفى. يحاول دائمًا أن يسلك سبلًا مراوِغة أكثر من المباشرة، ومكتومةً أكثر من المعلنة، حتى يحقق غاياته، وقد يلجأ أحياناً لاستخدام وسائل غير مشروعة أخلاقيًا. 
  لا أريد التنكرَ لأشكالِ الغزو القديمة والحديثة، وكيف كان اجتياح الإسكندر المقدوني العدواني للعالم القديم، ولا كيف اجتاحت الحروبُ والفتوحات العالمَ، ثم ما راكمته من أموال وممتلكات وأراض ورقيق؛ بما في ذلك ما أدى إليه، جانبياً، تقدمُ الغرب في العلوم والمعارف والفنون والآداب من تطورات غير مسبوقة في كلِّ تاريخ البشرية. ولا أنكر تبني وصناعة الغرب الحديث لمأساة الاستعمار، وهو ظاهرةٌ مقيتة لم تتردّد في استعبادِ مجتمعات بأسرها، والسطوِ على ثرواتها، واستنزافِ مواردها وكلِّ ما تمتلكه. الغزاة، عبر الأزمنة، يقتلون ويسترقّون الإنسانَ وينهبون كنوزَ البلاد المنكوبة وثرواتها ومواطنها، غير أن الغزو الإسباني سنة 1492 ثم الأوروبي للأمريكتين تمادى في التوحش فأباد حضارات وسكانَها بوحشية مريعة واستولى على ديارها. ومازالت شواهد وأطلال هذه الحضارات ترثي أهلَها، مثل: حضارة نورتي شيكو، حضارة أولمك، حضارة المايا، حضارة الإنكا، حضارة الزابوتيك، حضارة نازكا، حضارة إمبراطورية تيواناكو، حضارة واري، حضارة المسيسيبي، وحضارة الأزتك.
غني عن القول أن الاحتلال أو الاستعمار ضربٌ من التواطؤ الفردي والمجتمعي اللاأخلاقي لاستعبادِ الغير وتسخيرِه لخدمة المُستعمِر والمحتل. لكن تكمن المفارقة بأن الغربَ الحديث ذاته قد ابتكر لنفسه أحدثَ صيغةٍ للتداولِ السلمي للسلطة، وفصلِ السلطات، وبناءِ الحكم والإدارة ونظم الدولة المتنوعة الحديثة، وتأسيسِ الدولة الديمقراطية، وضمانِ حقوق مواطنيه وحرياتهم، داخل حدود دولته خاصة. الكلام عن التآمر بوصفه إطارًا للتفسير ليس دفاعًا أو تبريرًا للاستعمار، فأنا لا أثق بالاحتلال مهما كانت الأسماءُ التي يتخفى خلفها، وضدّ كلّ شكل من أشكال انتهاك حقوق الإنسان واستعباده واستلاب حرياته تحت أيّ شعار وتسمية، سواء كانت تلك الانتهاكاتُ تحت راية الرأسمالية أو الليبرالية أو القومية أو الاشتراكية أو الأصولية. وكذلك فأنا ضدّ كلّ الوصايات على وطني ومجتمعي، وضدّ كلّ أشكال الانتهاك لسيادة وطني من أية دولة قريبة أو بعيدة. وأيضاً ضدّ أية مشروعية لسلطة مستعارة من خارج إرادة الشعب بأي عنوان كانت.كلُّ الكفاح الذي خاضته البشرية منذ فجر التاريخ حتى هذه اللحظة ‏كان وما زال من أجل استرداد الكرامة والحريات والحقوق الإنسانية. الغزو والاستعمار والاحتلال وكلّ أشكال الاستغلال والعنصرية لا يمكن الشفاءُ منها بشكلٍ تام في المجتمعات والدول والحضارات أمس واليوم.
التنكرُ للأخطاء أحدُ أهم عوامل العجز العربي والإسلامي المزمن، وهو أحدُ بواعث تسيّد التآمر بوصفه إطارًا لتفسير الأحداث. الإنسانُ كائن مسكون بإعلاء ذاته، وحماية صورته أمام نفسه وغيره بمختلف الوسائل، وهذا الضرب من التفسير يمثل حيلةً لحماية الهوية المغلقة للجماعات من أن تتصدع أو تنثلم أو تتهشم. نرى هذا التفسيرَ ماثلًا في الحكم على الصراعات والمعارك المريرة بين الفرق والمذاهب في الماضي، حتى أن بعض الكتّاب يحيل نشوءَ أكثر الفرق والمذاهب والفلسفة والتصوف في تاريخنا إلى مؤامرات أعداء الإسلام، ويفسِّر كلَّ ما حدث في تاريخنا البعيد والقريب إلى عدو خارجي يخطّط وينفذ بخفاء ثم يزجّنا في معارك مفتوحة.كما نرى هذا التفسيرَ ماثلًا اليوم في تبرير ما نعيشه من انقساماتٍ تتوالد منها نزاعاتٌ وصداماتٌ متواصلة، تستقي من إكراهات التاريخ وتراث تكفير المختلِف في المعتقَد.  يتسيّد يقينٌ راسخ في أذهان بعض الكتّاب بأن كلَّ شيء في الماضي مؤامرة،كلُّ شيء في الحاضر مؤامرة، كلّ شيء في المستقبل محكومٌ مسبقًا بأنه مؤامرة. يصعب جدًا على الأفراد والمجتمعات قبول إخفاقاتها وأخطائها وفشلها، تخاف دائمًا من فضح عوامل عجزها الداخلية، وتتهرب من دراسة الأسباب الماضية والحاضرة الكامنة لفشلها، فيلجأ الإنسانُ لصناعة العدو والتفنن في تصويره ورسم مهاراته وقدراته الاستثنائية على اختراق وإفساد كلِّ شيء مهما اتخذنا حياله من حصون.  «ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة»، هذا شعار ضجّت به شوارعُ العراق سنة 1959، بعد الإعلان عن انقلاب في الموصل بسبب الصراع على السلطة والثروة داخل جماعة الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة. العراق من أكثر البلدان حديثًا عن المؤامرة، منذ ثورة 14 تموز 1958 وتسلم الجنرالات للسلطة، إلى 9 نيسان 2003 يوم احتلال بغداد وسقوط صدام حسين ونظامه، تورطت الأنظمةُ المتعاقبة والأحزاب السياسية والإعلام والثقافة والتربية والتعليم في هذا البلد بتبني التآمر بوصفه إطارًا للتفسير. بعد 6 أيام من وصوله الى الرئاسة ذبح صدام في 22 تموز 1979 رفاقَه في مجزرة قاعة الخلد، بذريعة التآمر عليه،  وكان قد بدأ بتصفية رفاقه بالتدريج منذ انقلاب 17 تموز 1968، واعدام الأحرار في العراق بوحشية بتهمة التآمر على الحزب والثورة، ولم تنشر أجهزتُه الأمنية والمخابراتية أيةَ وثيقة يُطمئَن إليها تفضح ذلك التآمرَ المزعوم.    عملت التعبئةُ الأيديولوجية وخطاباتُ صدام وأمثاله على ترسيخ التفسير التآمري، بنحوٍ صار مكونًا غاطسًا في اللاوعي الفردي والجمعي، يتحدث فيه الناسُ بحماس بلا تدبر، ويصعب جدًا وربما يتعذر معه حضورُ التفسير الواقعي.كتّابٌ شعبويون كانوا ومازالوا مسكونين باتخاذ التآمر إطارًا للتفسير، سيئو الظن بالمواطن الذي ينتمي لحزبٍ غير أحزابهم، وأيديولوجيا غير الأيديولوجيا التي يعتنقونها، ومعتقَدٍ غير معتقَدهم، وهويةٍ غير هويتهم. هؤلاء المولعون بهذا التفسير يعجزون عن رؤية أيّ عامل يساهم في إنتاج الواقع، ما هو مكشوفٌ أمامهم يغمضون عيونهم ويصمون آذانهم عنه، يتجاهلون العواملَ الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية الداخلية المنتِجة للواقع الذي يعيشه المواطن. التفسيرُ السياسي متهمٌ في بلادنا، إن لم يعتمد التآمر إطارًا للتفسير، ولو حاول اكتشاف العوامل المحلية للفشل والإخفاق والتخلف، مهما كانت تلك العواملُ مكشوفةً وتعلن عن حضورها بكثافة وقوة. 
أظن هذا الكلام يضعه بعضُ هؤلاء في خانة التآمر! 


تابعنا على
تصميم وتطوير