عملاً بنصيحة الدكتورة زهرة عليسباهيتش، أستاذة كلية العلوم الإسلامية في سراييفو، نويتُ التوجه مساء اليوم نفسه إلى زاوية أو تكية الحاج سنان، لعليّ أحظى بلقاء الشيخ سعد خليلاغيتش، الذي يجيد شيئاً من اللغة العربية كما أخبرتني الأستاذة عليسباهيتش. تُعَدُّ هذه التكية القادرية واحدة من أقدم التكايا في سراييفو ومنطقة البلقان، إذ أسسها بين عامي 1638 و 1640 م وزير السلطان مراد الرابع، سلحدار مصطفى باشا، وأشرف على بنائها التاجر السراييفي الثري الحاج سنان آغا. وكانت هذه التكية المحطة البوسنية الرئيسة لانتقال القادرية من مراكزها العثمانية إلى البوسنة منذ القرن السابع عشر. أما أول شيخ معروف للتكية فكان حسن كائمي بابا - وكلمة « كائمي» تعني الواقف أو القائم، وهو لقب صوفي يشير إلى مقامه الروحي- وقد أصبحت التكية في عهده مركزاً للإنشاد والذكر والتعليم. ومن أبرز مشايخ التكية في الخمسين سنة الأخيرة، بل وفي القرن العشرين بأسره، الشيخ فيض الله « فيضولاه» أفندي حاجيبايريتش، الذي أحيا حلقات الذكر القادري المنتظمة في سراييفو إبّان حقبة يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية، يوم كانت الأنظمة الشيوعية تُضيّق على الممارسات الدينية وحلقات الذكر الصوفية. وبفضل جهوده بقيت تكية سنان مفتوحة حتى الثمانينيات، بينما أُغلقت الكثير من التكايا في البلقان، وهو من أوائل المثقفين المسلمين في يوغوسلافيا الذين كتبوا عن التصوف بوصفه تراثاً فكرياً وروحياً لا ينفصل عن هوية المسلمين في البوسنة. توفي الشيخ فيض الله سنة 1990م، أي قبل استقلال البوسنة والهرسك بعامين، وما زال يُذكر بوصفه آخر شيخ مثقف كبير لتكية الحاج سنان. وبعد وفاته تولّى شؤون التكية الشيخ سعد خليلاغيتش.
صادف أن يكون لقائي مع الدكتورة زهرة عليسباهيتش يوم الاثنين. وعندما ارشدتني إلى تكية الحاج سنان، أوضحت لي أن شيخها يقيم مجلساً للذكر الجماعي كل يوم اثنين وخميس بعد صلاة العشاء خلال الشتاء، وبعد صلاة المغرب في فصل الصيف. طلبتُ من أيمن، رفيق رحلتي، أن نتوجه للبحث عن التكية في المنطقة القديمة من مدينة سراييفو، على مسافة قريبة من مسجد الغازي خسرو بك، ومن نافورة الماء الشهيرة «السبيل» . إذ تقع التكية على جانب شارع منحدر يؤدي إلى السوق القديم «باشجارشيا».
كان باب التكية الخشبي العتيق، المؤلَّف من دفتين، موارباً عند حلول الظلام. ترددتُ لحظة قبل أن أدفعه برفق، وأعبر الرواق القصير المؤدي إلى الباحة الداخلية. وهناك كانت تنتظرنا ليلة لا تُنسى، إذ وجدنا أنفسنا فجأة في قلب حلقة الذكر الرفاعية التي يقيمها شيخ التكية سعد خليلاغيتش، والذي ستجمعنا به لاحقاً مصادفة مدهشة. وسنعرف منه فيما بعد أنّ لبغداد دوراً في تأسيس هذه التكية، التي ما زالت تؤدي وظيفتها الروحية، ومفتوحة للزيارة إلى يومنا هذا.