في أطروحتنا للدكتوراه التي كانت بعنوان “نظام إنتاج الحقيقة في العصر الرقمي”، أوضحنا أن الحقيقة لم تعد مُعطى ثابتاً أو انعكاساً مباشراً للواقع، بل تُنتَج عبر تفاعلات وتشابكات تقودها العاطفة، الترند، موازين القوى، الجمهور، السلطة الرمزية، والشركات المالكة لمواقع التواصل.
قضية الدكتورة بان جاءت لتكون مثالاً واقعياً لنظريتي حول الموضوع؛ إذ كشفت أمامنا كيف تتشكل لدى الرأي العام والجمهور “حقائق” متتابعة لا تعني بالضرورة التطابق مع الواقع كما هو، بل تمثل ما يعتقده الناس ويؤمنون به في لحظة معينة.
فما الحقائق التي تداخلت في هذه القضية ؟
1 - الحقيقة العاطفية:
وقد تشكلت في لحظة الصدمة الأولى، حيث تعاطف الجمهور مع الراحلة، ورفض فكرة الانتحار، واندفع سريعاً لتبني فرضية القتل، فالعاطفة سبقت أي دليل، وخلقت الرواية الأولى عن القضية.
2 - الحقيقة الرقمية:
تسريب مقطع من داخل المشرحة، والتصريحات المضللة لبعض السياسيين، وتضخيم الخوارزميات للمنشورات غذّت الاعتقاد بوجود جريمة، فالمنصات تحولت هنا إلى محكمة بديلة خلقت حقيقتها الخاصة وقدمتها للناس.
3 -الحقيقة القضائية:
القرار الرسمي الذي أكد أن الحادثة انتحار قد حسم الموضوع وأغلق القضية، لكنه شكّل صدمة للجمهور، لأنه اصطدم بما تبنّته الرواية العاطفية والرقمية، وهنا ظهر التناقض بين ما اعتقد به الجمهور، وما يقرره القضاء وتحقيقاته .
إن القضية تكشف لنا، بشكل صارخ، عن ان الحقيقة لا تستند للواقع ولا للموضوعية، وإنما هي بناء اجتماعي، سرديات عاطفية، آليات خوارزمية، قوى سلطوية، تصنع الحقيقة وتقدما للجمهور الذي يتأثر بها لا شعوريًاً، ويصدقها، وبالتالي يدافع عنها.