في قلب محافظة ديالى، بين بساتينها الوارفة وأنهارها الهادئة، تشكّلت ملامح موهبة نحات عراقي عشق الفن منذ طفولته، حتى أصبح واحدًا من الأصوات المميزة في مجال النحت على مستوى العراق. ناثر، ابن المقدادية، حمل أدواته وأحلامه وسار في درب طويل مليء بالشغف والتحديات، متنقلاً بين مقاعد الدراسة وورش العمل، وبين ساحات العرض داخل البلاد وخارجها. في هذا الحوار، يروي لنا رحلته، ويكشف أسرار فنه، ويشاركنا رؤيته لدور النحت في تخليد الذاكرة والتاريخ.
* ما أولى ذكرياتك في عالم الفن؟
ــ ذكرياتي تعود إلى مدينة المقدادية، حيث كنت تلميذًا في المدرسة الابتدائية وأعشق درس التربية الفنية بشغف كبير. كنت أقضي وقتي في رسم وجوه المطربين الكبار، مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، حتى باتت هذه الموهبة ترافقني وتكبر معي عامًا بعد عام.
* كيف تم اكتشاف موهبتك ومن كان أول الداعمين لك؟
ــ عائلتي كانت الداعم الأول؛ والدي وإخوتي وأخواتي جميعهم لاحظوا ولعي بالرسم وانطوائي لساعات في غرفتي وبين يدي دفتر الاسكتشات. منذ المرحلة المتوسطة كنت أمارس الرسم بكثافة، وقضيت أوقاتًا طويلة أختبر الخطوط والأشكال.
* كيف كانت تجربة انتقالك إلى معهد الفنون الجميلة؟
ــ كان لدي أصدقاء من منطقتي يدرسون في المعهد، وشجعوني على التقديم. جاؤوا إلى منزلنا وأقنعوا والدي بموهبتي، فخيرني بين مواصلة الدراسة الأكاديمية أو الالتحاق بالمعهد. اخترت الفن بلا تردد، فالتحقت بقسم النحت عام 1982، وتخرجت منه عام 1986 – 1987.
* من هم الفنانون الذين تركوا بصمة في مسيرتك؟
ــ تعلمت على أيدي أساتذة كبار مثل ميران السعدي وعبد الرحيم الوكيل، وقد اكتشفوا أن النحت هو مجالي الأبرز، فصقلوا موهبتي ووجهوني. لكن أكثر من أثّر في مسيرتي كان أستاذي سهيل الهنداوي، الذي شجعني على الاستمرار والتطوير.
* ما أبرز التحديات التي واجهتك في بداياتك؟
ــ أصعب ما مررت به كان الانقطاع عن النحت أثناء أداء الخدمة الإلزامية في الجيش. بعد تسريحي، عملت معلّمًا لمادة التربية الفنية، وربيت أجيالًا من الفنانين الذين أفتخر اليوم بأنهم أكملوا دراساتهم وأصبحوا مبدعين. لاحقًا، أكملت دراستي الجامعية مسائيًا وحصلت على البكالوريوس في النحت.
* ما الأدوات والمواد التي تفضلها في أعمالك؟
ــ النحت يختلف عن باقي الفنون، فهو يحتاج إلى مساحة واسعة وتهوية جيدة بسبب المواد الكيميائية والمخلفات التي يخلفها. رغم دخلي المحدود، استأجرت مشتلًا وحولته إلى ورشة عمل ما زلت أمارس فيها النحت حتى الآن.
* كيف أثرت بيئة ديالى على إبداعك؟
ــ ديالى جنة طبيعية من بساتين وأنهار، وأنا بطبعي أحب الصيد لأنه يتيح لي الخروج للطبيعة. أثناء هذه الجولات، كنت أبحث عن مخلفات الطبيعة من خشب وحصى وحجارة، وأحوّلها لاحقًا إلى منحوتات. الطبيعة كانت وما زالت ملهمتي الأولى.
* ما أول عمل نحتي كبير نفذته؟
ــ أول عمل كبير كان أطروحة تخرجي في المعهد، وهي منحوتة لفتاة تعبر عن الحرية، ووضعت أمام المسرح الدوار. لاحقًا، نفذت أعمالًا كبيرة مثل نصب القرآن الشهيد في البصرة بارتفاع 15 مترًا، ونصب السيد محمد باقر في الحنانة، رغم أن هذه الأعمال غالبًا تُسجل باسم المقاول المنفذ.
* كيف توفق بين التدريس والإبداع الفني؟
ــ حوّلت قاعة كبيرة في مدرستي إلى مرسم، حيث أدرّس الطلاب وأمارس النحت في ركن مخصص. بعد الدوام، أذهب إلى ورشتي وأعمل حتى ساعات متأخرة. حياتي كلها مكرسة للفن، خاصة أنني لم أتزوج، ما منحني وقتًا أكبر للإبداع.
* ما دور النقابات والجمعيات الفنية في مسيرتك؟
ــ أنا عضو قديم في نقابة الفنانين وجمعية التشكيليين، وأشارك في جميع معارضهم ومحافلهم داخل العراق وخارجه، إضافة إلى أن وزارة الثقافة تدعمني في بعض المشاركات.
* كيف تطور أسلوبك الفني عبر السنوات؟
ــ بدأت بالواقعية، فهي الأساس لفهم النسب والأشكال، ثم انفتحت على مدارس أخرى. أعمل على مختلف الأساليب، لكن أميل أكثر إلى التعبيرية والحداثة.
* ما المواد التي تستخدمها وكيف تختارها؟
ــ الطين هو المادة الأساسية عالميًا، لكنه ليس مناسبًا دائمًا للأعمال الكبيرة. أعمل أيضًا على الفلين والخشب والمرمر والفوم، وأختار المادة حسب حجم العمل ومتطلباته.
* كيف تتطور الفكرة حتى تتحول إلى عمل نهائي؟
ــ كثير من أعمالي غير مخطط لها؛ أترك يدي تتبع إحساسي مع الموسيقى الهادئة. أما الأعمال المخصصة لجهة ما، فأبدأها برسم السكتش، ثم اختيار الخامة، ثم التشكيل، فالتنعيم، وأخيرًا صب القالب وإنتاج النسخة النهائية من مواد مثل البوليستر والفايبر جلاس.
* هل تصنع أدواتك بنفسك؟
ــ نعم، كثير من أدوات النحت أصنعها بنفسي، خاصة للعمل على البورتريه.
* ما موقع الرمزية في أعمالك؟
ــ أنا من أشد المعجبين بالمدرسة الرمزية، فهي تقدم فكرة العمل بإيجاز بصري يلتقطه المشاهد فورًا. أتمنى أن تكون معظم نصب العراق رمزية لتعبر عن قضاياها بعمق.
* ما دور النحت في تخليد الذاكرة؟
ــ النحت وُجد للتخليد، لتوثيق الحوادث والشخصيات والأحداث الكبرى، وأيضًا لتجميل الفضاء العام. أطمح أن نعيد نصب رموز حضارة وادي الرافدين في ساحاتنا حتى يتعرف الجيل الجديد على تاريخه.
* هل تفضل الأعمال الضخمة أم الصغيرة؟
ــ أميل إلى الأعمال الضخمة التي توثق وتُخلّد ويُكتب عليها اسمي، رغم أهمية الأعمال الصغيرة في المعارض للتواصل مع الجمهور.
* كيف يتفاعل الجمهور مع أعمالك؟
ــ الجمهور يتفاعل بإيجابية كبيرة، سواء في المعارض المحلية أو الدولية، مثل مشاركاتي في لبنان وتركيا، حيث لاقت أعمالي إعجابًا واسعًا.
* ما طموحاتك المستقبلية؟
ــ جزءٌ من طموحاتي عبر التدريس وصقل مواهب الطلبة، وأمتلك الآن ورشة لإنتاج أعمال كبيرة تتوزع في محافظات العراق. حلمي الأكبر أن يُقام لي نصب في أماكن محورية في بغداد.
هكذا يمضي ناثر إبراهيم، النحات الذي صاغ من الطين والخشب والحجر قصصًا تحكي عن الحرية والجمال والذاكرة.. في ملامحه تجد مزيج الحرفي المتقن والحالم الذي لا يساوم على شغفه..
من ورشته في ديالى، حيث تتجاور رائحة التراب مع أصوات المطرقة والمبرد، يرسم ملامح حلم أكبر من حدود المكان، حلم أن تظل منحوتاته شواهد على زمن، ورسائل من جيل إلى جيل..
في كل قطعة ينحتها، يودع شيئًا من روحه، وكأنه يقول: الفن باقٍ، والزمن عابر، وما يبقى هو الأثر.