إلى الأستاذ الدكتور كاظم خلف العلي .. مع التحية...
ربما لم تعد تذكرني. كنتُ واحدا من طلابك قبل نيف وعشرين عاما (كلية الآداب/جامعة البصرة/قسم اللغة الانكليزية). أجلس في الصفوف الأخيرة، أدوّن بهدوء ما كنت تلقيه على مسامعنا، ولكن اصدقك القول، انه لطالما كان يسرح خيالي خارج صالة الدرس. كنت مولعا بكتابة الشعر العمودي. فلا يزورني شيطان الشعر إلا وأنا عند مقعد الدراسة. انطفأت تلك الشعلة وحلت محلها شعلة ثانية فثالثة ثم رابعة. لم أكن ذلك الطالب اللامع. ولم أكن مميزا بما يكفي ليرسخ اسمي في ذاكرتك، لكنني اليوم أكتب إليك وأجري على الله، لا لأُذكّرك بي، ولا لأخبرك ما كنت أفعله في محاضرتك القيمة، بل لأُعزّيك.
أعزيك بطالبتك، التي قضت في حادث الهايبرماركت في واسط في 16 من تموز الماضي. طالبة الماجستير (رغد سعدون)، هذه الطالبة التي وفدت من محافظة واسط وحلت ضيفةً على البصرة لتشرع في دراسة الماجستير وكتابة رسالتها تحت اشرافك والتي كانت من المفترض أن تناقش رسالتها في 31 من تموز 2025.. هي لم تحضر الموعد، ما اضطرك ان تدافع عن رسالتها بنفسك، ربما لأن لجنة المناقشة قد انابتك بالدفاع كونك المشرف على رسالتها، او ربما لان هذا هو ديدنك في الدفاع عن طلبتك. انتهت المناقشة ومنحت الطالبة الفقيدة تقدير الامتياز «لما تتميز به الرسالة من رصانة علمية على مستوى الشكل والمضمون». ربما مضت وهي تحمل أحلامها على ورقتها البحثية، وربما مضت وبرفقتها ملاحظتك الأخيرة، خطت على مسودة صغيرة بيضاء كانت محشورة في جيبها أثناء الحادث. ربما قد واكبت انت نضج رسالتها يوما تلو الآخر، وربما سمعت أسئلتها تزداد تألقا سؤالا تلو الآخر. وربما كنت ترى فيها نسخةً شابة مما كنت أنت عليه يوما. ولكني اجزم انك لم تكن لتظن أنها ستقطف من شجرة الحياة بهذه الكيفية ولا بهذه السرعة.
أثارت حادثة طالبتك وما رافقها من ضحايا وحالات تراخٍ وسوء تدبير في مواجهة الفاجعة، ضجيجاً على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض القنوات الفضائية التي وجدت منها مادة دسمة تسعفهم في سد حاجتهم في ساعات بثهم البغيضة. وما ان مرت الأيام حتى عاد الناس الى ما كانوا عليه والقنوات وجدت ما هو جديد وما يسترعي انتباه المشاهدين، ليغلق الملف حاله حال ملفات أخرى. لقد رحلت رغد كما يرحل أي مواطن عن هذا البلد. أعلم أن الجراح أعمق من الكلمات ولكني أعزيك يا أستاذي… ليس فقط بفقدان طالبتك، بل أعزيك بمستقبل يبدو وكأنه هش لا تنطبق عليه أي شرط من شروط الأمان، سريع الاشتعال. أعزيك لأنك فقدت أكثر من طالبة. لقد فقدت دليلاً آخر الى الأمل.
أعرف أن هذا الحريق لن ينطفئ، بل هو اشتعال دائم في قلب كل مَن يفقد عزيزا عليه. اعزيك فنحن لدينا قلوب كما الهشيم تنتظر عود ثقاب لتشتعل. وعيون كما السحب المحملة تنتظر الذريعة لتنهمر بالمطر اوالبكاء.
أعزيك أيها العالم النبيل، لا لأنك فقدت طالبة، بل اب فقد ابنته.
رغم أن رسالتها قد نوقشت وكالةً، فنالت الامتياز، إلا اني احسب رسالتها لم تكتمل بعد بنظرك، لأنك لم ترَ طالبتك تشرق بابتسامة الرضا فيما تعلن لجنة المناقشة «أن الطالبة رغد سعدون قد منحت تقدير الامتياز لما تتميز به الرسالة من رصانة علمية على مستوى الشكل والمضمون».
رحلت هذه الشابة في إحدى زوايا هذا البلد الصاخب الذي يحترف إحراق ما تبقى فيه من جمال وبراءة.
لن تقضي رغد في حريق عابر، بل في حريق يتجدد ضمن سلسلة طويلة من الإخفاقات واللامبالاة والتراخي الذي يقتل ببطء، لكنه يقتل على أي حال.
لقد احترقت في مبنى لا يستوفي أدنى شروط الأمان، تماما كما نحيا في بلد لا يستوفي أدنى شروط الحياة. وسيتكرر الحريق في مكان آخر، مع اناس اخرين، ولن يتغير شيء سوى الاسماء.
لكنها احترقت… مع أوراقها، وأحلامها، ومشروعها العلمي، كما احترقت اشياء في هذا الوطن الجميل على مرّ مئات السنين. أعزيك لأنك فقدت أكثر من طالبة. لقد فقدت دليلاً آخر من الأمل، ابنتك. أعرف أن هذا الحريق لن ينطفئ.
رحم الله ابنتك، طالبتك (رغد سعدون وادي)، ورحم الله اختها وثلاثة أفراد من عائلتها، وكل من قضى في هذا الحادث المروع الذي ما كان له أن يحدث، ولكن «في القلب شجى وفي العين قذى».
“رحلتْ قبل أن تسمع قرار اللجنة.”
وأنا، تلميذك الذي ربما لم تتذكره بعد، أضيف:
رحلت وسنرحل كما يرحل أي مواطن اخر في هذا البلد
فاستمتع بصمتك المتأرجح بين كلمات الحزن والمعرفة.