ألقت رئيسة وزراء إيطاليا السيدة جيورجيا ميلوني بحجرة كبيرة في مياه الاتحاد الأوروبى غير الراكدة أصلا، وأحدثت بذلك رجة عنيفة في جميع الأوساط السياسية والنقابية والحقوقية في دول الاتحاد الأوروبي .ميلوني، التي وصلت إلى سدة الحكم في إيطاليا في سنة 2022 بعدما تعاقدت مع ناخبيها على رزمة كبيرة من القرارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتقدم ملف الهجرة المعقد أولويات البرنامج السياسي لهذه السيدة، وأطلقت العنان لقولتها الشهيرة “إيطاليا لن تتحول إلى ملجأ للاجئي أوروبا”، ووعدت بالوقف الفوري لهذه الظاهرة، وصفق لها اليمين الأوروبي، وأعلنت مختلف التشكيلات اليمينية الأوروبية مساندتها لها، مما مكنها من الحصول على مئات الآلاف من أصوات الناخبين الإيطاليين التي بوأتها المرتبة التي حققت لها ترأس الحكومة . وما أن تسلمت مقاليد الحكم حتى سارعت إلى اتخاذ تدابير وقرارات ترجمت فعلا وعودها والتزاماتها في هذا الصدد، من خلال مطاردة المهاجرين المقيمين في إيطاليا بصفة غير قانونية، وراحت توقع اتفاقيات مع دول الجوار، تسبب بعض من هذه الاتفاقيات في كثير من المتاعب لدول من جنوب البحر الأبيض المتوسط أغرتها عروض ميلوني .ويبدو أن هذه السياسية المعادية للهجرة وللمهاجرين لم تحقق النتائج المنتظرة منها، بل على العكس من ذلك قذفت بإشكاليات جديدة أجبرت ميلوني على مراجعة مواقفها، وبالتالي تخلت عن التزاماتها واستسلمت للأمر الواقع، وأدركت أن التعاطي مع قضية الهجرة من زاوية تمييزية عنصرية لا يمكن أن يمثل حلا مناسبا لقضية التشغيل المعقدة في إيطاليا، وأن التعامل معها بهاجس أمني صرف ستكون له تداعيات، ليس مع المحيط الإقليمي لإيطاليا فحسب، بل أيضا على المستوى الداخلي .وهكذا فاجأت سيدة إيطاليا الأولى حلفاءها في اليمين الأوروبي بإعلانها تدابير جديدة لصالح المهاجرين غير النظاميين من قبيل منح التأشيرة لأكثر من 500 مهاجر غير نظامي من أفريقيا وآسيا، ومن خلال التأكيد أيضا على أن الحكومة الإيطالية ستتعامل مع الهجرة بمقاربة جديدة، تقبل من خلالها باستقبالهم فوق التراب الإيطالي بصفة منظمة وقانونية، وبررت ذلك بأن إيطاليا تحتاج إلى اليد العاملة، ولذلك فإن البلاد مضطرة للانفتاح على الخارج لاستقبال العمال والحرفيين .موقف ميلوني المفاجئ أحدث رجة عنيفة جدا في دول الاتحاد الأوروبي، حيث سارعت كثير من الأوساط اليمينية هناك إلى معارضة اختياراتها الجديدة، وذهب بعضها بعيدا من خلال التلويح بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي احتجاجا على ما أقدمت عليه حليفتهم السابقة .لا تفسير لما حدث في إيطاليا غير القول بأن جزءا من الطبقة السياسية الجديدة في القارة العجوز لم يعد يتطلب وصولهم إلى الحكم برامج سياسية واجتماعية واقتصادية واضحة ومدروسة، كما عهدنا في التجربة الديمقراطية التاريخية هناك، بل بكفي دغدغة مشاعر الناخبين بوعود رنانة وجوفاء، لكن ما أن وصلت هذه الطبقة إلى سدة الحكم حتى وجدت نفسها عاجزة عن تدبير شؤون الحكم بالعمق الفكري والمعرفي، وبالتالي راحت تبحث عن مسكنات تقلل من الآلام الصعبة التي يعاني منها جسد المجتمع .ميلوني لم تختر القبول بالآخر القادم من الخارج بقناعة تستند إلى الإيمان بالقيم الإنسانية والاعتراف بالتعدد وبالاختلاف والقبول بالآخر بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه، بل اضطرت إلى الانقلاب على حقيقتها وهويتها لقضاء حاجة لها فيها منفعة .