في اليوم الرابع لوصولي إلى سراييفو، الموافق السادس عشر من يونيو/ حزيران 2025، طلبتُ من أيمن، رفيق رحلتي ودليلي في البوسنة والهرسك، أن يوصلني إلى مبنى جامعة سراييفو، بعدما خطرت لي فكرة البحث عن أي قسم أو كلية، تُعنى بالدراسات الشرقية أو باللغة العربية، لعلّي أجد أستاذا يتحدث العربية، أستفسر منه عن بعض الأماكن التي خططتُ لزيارتها، ومنها الزوايا والتكايا الصوفية التي لابدّ أن لها تاريخاً يعود إلى زمن الدولة العثمانية، تلك التي أولت الطرق الصوفية اهتماماً خاصاً.
تقع رئاسة جامعة سراييفو في مبنى قديم يعود إلى خمسينيات القرن التاسع عشر، وكان في السابق مقراً لكلية الحقوق، قبل التأسيس الرسمي للجامعة عام 1949. يطل المبنى مباشرة على شارع رئيسي يمتد بمحاذاة نهر ميلجاكا الذي يشطر العاصمة إلى نصفين. أوصلني أيمن إلى مدخل الجامعة، ثم مضى ليركن سيارته في موقف قريب. وقبل أن أدخل قسم الاستعلامات، وقفتُ أتأمل الطراز المعماري الفريد للمبنى، الذي يمزج بين الهوية الأوروبية والطابع الإسلامي، وتضفي عليه الأعمدة الكلاسيكية الفخمة طابعاً رسمياً مهيباً. وبعد تبادل كلمات ترحيبية بسيطة مع الموظف البشوش، بدأت بتحية « السلام عليكم» التي نطقتها بنبرة قريبة من البوسنية « سِلام أليْكُم»، فرد بـ « أليكم سِلام»، ثم قلت تحيتهم الرسمية « دوبر دان « ( Dobar dan ) أي «يوم طيب» أو « نهار سعيد». ففهم مقصدي بعد استعانتي بالهاتف الذكي، وأرشدني إلى مبنى ضمن مجمع كبير يبعد حوالي عشر دقائق مشياً على الأقدام، ويضم معهداً للدراسات الشرقية تابعاً للجامعة.
لفت نظري في الواجهة الأمامية للمجمع تمثال لا يزال قائماً للمارشال جوزيب بروز تيتو، الرئيس اليوغوسلافي الشهير، ببزته ومعطفه العسكري الشتوي، إذ كان المجمع يُعرف سابقاً بـ « مرابض تيتو العسكرية» تكريماً له بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قبل أن يتحوّل إلى مجمع للكليات والمعاهد التابعة لجامعة سراييفو. دخلنا المبنى، وبعد سؤال وبحث لدقائق، عثرنا على ضالّتنا: باب صغير شبه مغلق، على جانبه لوحة كُتب عليها « معهد الدراسات الشرقية». دفعنا الباب قليلاً، فإذا به يفضي إلى سلم طويل يحجبنا عن صعوده باب آخر مشبّك بقضبان حديدية. ولولا أنني لاحظت زر جرس كهربائي على الحائط المجاور، لعدنا أدراجنا. لكن ما إن ضغطت الزر، حتى أطلت علينا موظفة من باب خشبي جانبي في أعلى السلم، رحّبت بنا من بعيد، وفتحت الباب، ثم قادتنا في ممر ضيق قليل الإضاءة إلى غرفة المكتبة، حيث استقبلتنا موظفة أخرى، ومن حسن حظّنا أنها كانت تجيد نطق بعض الكلمات العربية وفهمها.
كان المعهد خالياً وقت زيارتنا من أي أستاذ أو باحث يمكنه أن يقدّم لنا المساعدة التي نطلبها، فاقترحتا علينا الذهاب إلى كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو، مؤكدتين أننا سنجد هناك مَن يتحدث العربية، ويرشدنا إلى ما نبحث عنه.