إلى أمريكا، وبعد أكثر من أربعين عاما من مغادرتها العراق.. الزوراء تتابع المذيعة القديرة كلادس يوسف {أم همسة} وتتصل بها لتقيم معها حوارا جميلا نستعيد فيه ذكريات التعامل الأولى مع المايكروفون.. كلادس يوسف اسم راسخ في ذاكرة الإعلام العراقي، تركت أثرًا لا يُمحى، ومن بينها تتألق كلادس يوسف، إحدى أقدم المذيعات في تاريخ إذاعة وتلفزيون العراق. بصوتها الهادئ وحضورها الرصين، رافقت المستمعين والمشاهدين على مدى عقود، فكانت شاهدة على تحولات سياسية وثقافية كبيرة، ومساهمة فاعلة في ترسيخ قواعد الإعلام المهني. من استوديوهات الصالحية إلى مهرجانات التكريم في المهجر، ظل شغفها بالكلمة وصدقها في الأداء بوصلتها، رغم الظروف القاسية التي فرضت عليها الرحيل عن الوطن. في هذا الحوار الشامل، نعود برفقتها إلى محطاتٍ شكلت مسيرتها، نستعرض تحدياتها، ونتوقف عند مواقف لا تنسى، في رحلة إعلامية امتدت لأكثر من اربعين عامًا من العطاء.
* كيف حال اختنا ام همسة ؟
ــ دعني يا جمال امسح دموع الفرح بسماع صوتكم وأنا اشم عبق اذاعة وتلفزيون العراق .
* حدثينا كيف بدأتِ مسيرتكِ في الإذاعة؟
ــ دخولي إلى الإذاعة العراقية كان محض صدفة. كنت أهوى القراءة منذ صغري، حيث تعلمت القراءة بعمر الخامسة على يد خالي، رحمه الله، الذي شجعني كثيرًا. وذات يوم، سمعت إعلانًا إذاعيًا يطلب خواطر وطرائف وأخبارًا قصيرة لبرنامج «صندوق الدنيا»، فأرسلت بعضًا منها عبر صديقتي، التي تم تعيينها لاحقًا في الإذاعة. عرضت عليّ التقديم للعمل معها، وذهبت معها دون أن أتوقع أنني سأقضي اكثر من خمسة وثلاثين عامًا في هذا المجال.
* كيف كانت تجربتكِ في المراحل الأولى لتأسيس إذاعة بغداد؟
ــ كانت الإذاعة في مراحلها التأسيسية، والأقسام لا تزال حديثة. قسم البرامج كان بمثابة ورشة تدريبية إذاعية، حيث كنا نسجل ونعيد الاستماع لتحسين الأداء. وقد تدربت على يد كبار إذاعيي «إذاعة الشرق الأدنى» مثل صبحي أبو لغد وعبد المجيد أبو لين، إضافة إلى الكاتبة الفلسطينية سميرة عزام. تعلمت منهم الكثير عن إعداد وتقديم البرامج، وخصصوا لي برنامج الأسرة الذي قدمته لنحو عشرين عامًا، وحرصت فيه على مخاطبة المرأة بأسلوب إيجابي وداعم.
* كيف بدأتِ العمل كمذيعة أخبار؟
ــ في ذلك الوقت، كانت الإذاعة تفتقر إلى أصوات نسائية، فرُشحت للانتقال إلى قسم المذيعين، وبدأت بقراءة النشرة المحلية ثم النشرة الرئيسية. بدأت بنشرة الساعة السادسة مساء، ثم نشرة الساعة الثامنة، وكانت تعتبر الأهم. لم يكن لدينا قسم أخبار كما هو الحال الآن، بل كانت النشرة تُهيّأ في وكالة الأنباء العراقية، ويتم إيصالها سيرًا على الأقدام إلى مبنى الإذاعة.
* هل واجهتِ مواقف صعبة أثناء قراءة النشرات؟
ــ نعم، أتذكر موقفًا لا أنساه. كنت أستعد لتقديم نشرة الثامنة مساءً في يوم ممطر، وتأخرت النشرة، ثم وصلت بيد المراسل وقد تبللت وتلطخت بالوحل. أصبت بصدمة، لكن لم يكن هناك وقت للتفكير. دخلت الأستوديو وبدأت أقرأ النشرة، ممسكة أوراقها بحذر، وأستخدم منديلي لمسح الوحل عن الصفحات. أضفت كلمات من عندي عندما كانت بعض الحروف غير واضحة. أنهيت النشرة وسط ترقب زملائي خلف الزجاج، ثم انفجرت باكية من التأثر بعد خروجي من الأستوديو.
* كيف كان شكل قسم الأخبار آنذاك؟
ــ كان يفتقر إلى المعدات والأجهزة الحديثة، ويحتاج إلى كوادر مدربة. الإخبار كانت تُعتبر العمود الفقري لعمل الإذاعة. كنا نستلم النشرة مشيًا من وكالة الأنباء، وغالبًا ما تصلنا قبل دقائق من موعد البث، وأحيانًا مع رنين دقات الساعة التي تعلن بدء النشرة.
* ما ملامح مبنى الإذاعة والتلفزيون في ذلك الوقت؟
ــ كان مبنى صغيرًا في منطقة الصالحية قرب الجسر المؤدي إلى شارع الرشيد وساحة حافظ القاضي. العاملون فيه لا يتجاوز عددهم ثلاثمائة شخص. أما التلفزيون، فكان يبث من أستوديو واحد، بالأسود والأبيض. كل شيء كان بسيطًا لكنه مليء بالحيوية والشغف.
* هل تتذكرين زملاءك في قسم المذيعين؟
ــ نعم، عملت مع العديد من الزملاء منهم قاسم نعمان السعدي، سليم المعروف، مشتاق طالب، إبراهيم الزبيدي، عبد اللطيف السعدون، د. أحمد الحسو، حافظ القباني، خالد العيداني، حسين حافظ، طارق حسين، بهجت عبد الواحد، رشدي عبد الصاحب، مقداد مراد، أكرم محسن، غازي فيصل، نهاد نجيب، غازي البغدادي، ماهر ناظم بطرس، مال الله الخشاب، عدنان الجبوري، جودت، جنان فتوحي، خيري محمد صالح. ومن الزميلات: سعاد أحمد عزت، ذكرى الصراف، أمل قباني، هدى رمضان، أمل المدرس، سهام مصطفى، أمل حسين. والمدراء الذين عملت معهم: خليل إبراهيم، أنور السامرائي، عبد الرحمن فوزي، سليم راسم، كامل الحيدري، أرشد توفيق، عدنان الجبوري.
* هل شاركتِ في التغطيات الميدانية أو النقل الخارجي؟
ــ في العادة، كان النقل الخارجي من اختصاص المذيعين، لكنني شاركت في مناسبة رياضية. طلب مني رئيس قسم المذيعين آنذاك، ضياء عبد الرزاق، أن أشارك في نقل مباراة لكرة القدم. استغربت في البداية، لكنه طمأنني بأن دوري سيكون في بداية المباراة وخلال الاستراحة. رافقني الأستاذ مؤيد البدري الذي دعم مشاركتي وساندني. تحدثت عن الفريقين وأجواء الملعب وأجريت لقاء مع فهمي القيماقجي. وبعد المباراة، فوجئت بإشادة الصحف بدوري، وكان ذلك أول مرة تشارك فيها مذيعة في تغطية رياضية من هذا النوع.
* ما أبرز ذكرياتكِ التي لا تزال محفورة في ذاكرتكِ حتى اليوم؟
ــ هناك الكثير من الذكريات التي لا تُنسى، فقد عايشت العهدين الملكي والجمهوري، وشهدت انقلابات وثورات وأحداثًا تاريخية مهمة. كان لي لقاءات مع مسؤولين كبار. واليوم، وأنا في أمريكا، ما زالت تلك الذكريات حية في داخلي، رغم مرارة الغربة، والتي فرضتها ظروف طائفية أليمة دفعتني لمغادرة وطني دون رغبة مني.
* كيف بدأت علاقتكِ مع التلفزيون؟
ــ كانت بدايتي مع التلفزيون من خلال برنامج «المرأة». كلفوني بتقديمه، وكنت أجد كل شيء مهيأ، فكنت أقدمه فقط دون أن أتدخل بالإعداد. وعندما طلبت إجازة للسفر إلى لبنان في الصيف، أمر مدير التلفزيون آنذاك، الأستاذ عبد الرحمن فوزي، بتسجيل ثلاث حلقات تُعرض أثناء غيابي.
* وكيف بدأتِ تقديم نشرات الأخبار في التلفزيون؟
ــ كان الأمر مصادفة أيضًا. في أحد الأيام، وبينما كنت في إذاعة بغداد أؤدي الفترة المسائية، جاءني الزميل المرحوم سعاد الهرمزي مسرعًا وقال إن النشرة طويلة ولن يستطيع قراءتها وحده، وطلب مني مساعدته في التلفزيون. ترددت لأنني لم أكن مهيأة، لكنه أصرّ، فذهبت معه وقرأنا النشرة سويًا. كانت هذه أول مرة أقرأ فيها نشرة أخبار تلفزيونية، ومنذ ذلك اليوم أصبح الجميع يطالب بمشاركتي الدائمة في نشرات التلفزيون.
* هل واجهتِ صعوبات أثناء عملكِ في التلفزيون؟
ــ نعم، من أبرز الصعوبات التي كنت أواجهها هي عدم وجود صالون خاص بالمذيعات داخل مبنى التلفزيون. كنت أضطر للذهاب إلى أحد الصالونات القريبة بسيارة أجرة لتجهيز نفسي قبل النشرة. وقد طلبت حينها إعفائي من قراءة النشرة لهذا السبب. لكنني عدت لقراءتها عندما تولى الشاعر الأستاذ حميد سعيد إدارة الإذاعة والتلفزيون، وطلب مني العودة، واستمر عملي إلى أن جاء الأستاذ ماجد السامرائي عام 1983 وقرر قصر قراءة النشرات على المذيعين دون المذيعات، ولا أعرف ما كان السبب.
* هل كنتِ تفضلين الإذاعة أم التلفزيون؟
ــ كنت أحب الإذاعة أكثر، رغم أن التلفزيون أكثر انتشارًا وتأثيرًا. الإذاعة كانت الأقرب إلى نفسي، ربما لأنها بدأت معي أولًا، أو ربما لأن العمل فيها كان أكثر انسجامًا وهدوءًا.
* لكننا نعرف أنك نُقلتِ رسميًا إلى التلفزيون، أليس كذلك؟
ــ نعم، في بداية السبعينيات، كان الأستاذ عادل عبد الجليل رئيس قسم المذيعين في التلفزيون، وأبلغني بأنهم قرروا نقل عدد من المذيعين، من ضمنهم رشدي عبد الصاحب، وماهر ناظم بطرس، وأنا، إلى التلفزيون. لكن ظروفي آنذاك لم تكن مناسبة، فطلبت إعفائي، وقد تفهم موقفي وقال لي: «أردنا فقط أن تكوني في الواجهة».
* هل عرضت عليكِ فرص عمل في إذاعات عربية؟
ــ نعم، في عام 1965 زار بغداد الإعلامي الكويتي المعروف حمد المؤمن، وكان مدير التلفزيون الكويتي آنذاك، وطلب التعاقد معي للعمل في الكويت. وعدني براتب أعلى بكثير من راتبي في بغداد، لكنني رفضت لأنني كنت موظفة في وزارة التربية، كما أنني لم أرغب يومًا في العمل خارج العراق.
* وماذا عن حياتكِ الحالية في أمريكا؟
ــ عملت في الصحافة بعد استقراري هنا. أسست جمعية أصدرت مجلة شهرية كانت توزع مجانًا، كما عملت عضوة تحرير في مجلة «الحقيقة» التي تصدر في ميشيغان لمدة خمس سنوات. كما كتبت بعض المقالات لجريدة «العراق» في لوس أنجلس، وأنا عضوة في نقابة الصحفيين العرب هناك. وشاركت أحيانًا بمقالات في جريدة «بيروت تايمز»، لكن ظروفي الصحية لا تسمح بالاستمرار بشكل دائم.
* هل تلقيتِ تكريمات على مسيرتكِ الطويلة؟
ــ نعم، كثيرة هي التكريمات التي أعتز بها. من أبرزها أن الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم أمر الإذاعة بإجراء مسابقة لإعداد برامج عن فلسطين، ففاز برنامجي «ضمائر بيعت في الأسواق» بالجائزة الأولى. كما حصلت على وسام تكريمي من وزير الثقافة والإعلام، ضمن مجموعة من المذيعين والمذيعات، على أدائنا في ظروف الحرب الصعبة.
وفي المهجر، كرمتني الملحقية الثقافية في واشنطن خلال مؤتمر أكاديمي لتطوير التعليم العالي في العراق، كما دعاني المركز الثقافي في ذكرى تأسيس الإذاعة العراقية، وكرمت كأقدم مذيعة هناك. حضر المناسبة عدد من المثقفين والشعراء، وكان من بينهم المذيع عبد الواحد محسن. ما زلت أحتفظ بعدد من هذه التكريمات حتى اليوم.
* من بين البرامج التي قدمتِها، ما البرنامج الذي تعتزين به أكثر من غيره؟
ــ من أحب البرامج إلى قلبي برنامج «في رياض الأدب»، الذي كان يعدّه العلامة الدكتور مصطفى جواد. هو من رشحني لتقديمه، رغم أن لغته كانت صعبة أحيانًا، لكنه كان يبسط لي المفردات ويشرحها بأسلوب رائع.
هذا البرنامج طور لغتي بشكل كبير، وعلمني استخدام مفردات لم نكن نستعملها في الإذاعة يوميًا. وكنت فخورة جدًا بثقة الدكتور مصطفى جواد. أيضًا، أعتز بتقديمي برنامج «بدأ البث الإذاعي»، البرنامج الصباحي الذي كنت أبدأ به اليوم، وكان غنيًا بالفقرات والمعلومات.
* وأنت الآن في أمريكا ما الذي تعملين وماذا تودين إن تقولي لشعب العراقي الحبيب ؟
ــ أقول لوطني ولشعبي رغم المسافات، ورغم ضجيج الحياة هنا ولهجة الغربة، يظل وطني ساكنًا في صوتي، يتردد مع كل نبضة في قلبي، ومع كل حرف أذيعه في الغربة.غادرتُهُ لا هاربة، بل مجبرة. تركتُ خلفي المايكروفون الذي شهد أجمل سنوات العطاء، وتركت وجوه الناس التي تعودت أن أراها خلف الأثير، وملامح بغداد التي كانت تستيقظ على صوتي.
كنت أحمل في حقيبتي شيئًا أكبر من الذكريات... كنت أحمل الوطن كله.كل يوم يمر في الغربة، أشتاق لرائحة ترابه، لصوت الأذان من مآذنه، لصخب شوارعه، لبساطة أهله.
أشتاق للابتسامة التي كنت ألمحها في عيون المستمعين، رغم أني لم أرهم، لكنني كنت أسمع نبضهم يصلني كما يصل الحنين من قلبي إلى قلمي.
ــ عمرا مديدا وصحة دائمة أيتها الغالية.