رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
ناهدة الرماح أيقونة أعطت عيونها للمسرح قبل رحيلها الأبدي


المشاهدات 1209
تاريخ الإضافة 2025/04/12 - 9:47 PM
آخر تحديث 2025/04/19 - 3:08 PM

ناهدة الرماح ممثلة سينمائية ومسرحية رائدة، ولدت في محلة الحيدر خانة ببغداد عام 1938،  لأسرة متنورة تحترف السياسة، وكانت النجمة الأولى وبدون منازع في المسرح العراقي، وانطوت سيرتها على قدر من الاستثنائية والتفرّد، واكتسبت شجاعة رمزية ألهمت كوكبة من النساء ونخبة من المؤمنات بتحرّر المرأة، خصوصًا من الشابات، وهو ما كانت تلمسه وتحسه في حياتها بما فيها في الغربة التي سارت في دروبها الوعرة وخبرت تضاريسها وعرفت منعرجاتها، لكنها لم تستكن أو تنزو أو تتقاعس على الرغم من كلّ ما حصل لها من فقدان بصرها الذي لا يلغي نور البصيرة. وتلك حكمة التاريخ، لكن ذلك لم  ينهِ طموحها ، وبقي ذلك الأمل الغريب الذي لا يعرفه سوى كنّاسي المسرح بعد خروج آخر الممثلين.

تعد ناهدة الرمّاح بحق إحدى أبرز رائدات المسرح العراقي الطليعي وقد انضمّت إلى فرقة المسرح الفني الحديث بعد أزادوهي صموئيل، وكانت خطواتها الاولى هي مشاركتها في تمثيل فيلم «من المسؤول؟» في عام 1956، ولم يكن انتماؤها إلى الفرقة مجرد رغبة لديها في التمثيل، بل أدركت بوعيها الجنيني الأول ما للمسرح من تأثير كوسيلة للتعبير، خصوصًا لما تتمتّع به فرقة المسرح الفني الحديث من سمعة وتوجّه وريادة، وبرزت في دور المرأة الخرساء في مسرحية «الرجل الذي تزوّج امرأة خرساء» العام 1957، وهو العمل الأول الذي أخرجه سامي عبد الحميد وتمّ تمثيله في قاعة «الملك فيصل» التي سميّت لاحقًا «قاعة الشعب».  
كما شاركت في بطولة فيلم «من المسؤول» للمخرج عبد الجبار ولي، وعمرها 16 عاما، نجح الفيلم واحترفت الرماح الفن، بعدها شاركت خليل شوقي بطولة «الظامئون» (1972)، فضلا عن فيلم ثالث بعنوان «يوم آخر» (1979)، وعلى الرغم من قلة افلامها، إلا أنها قدمت فيها أدوارًا لا تنسى. بمباركة زوجها وأسرتها.
ناهدة من مواليد 1938 واسمها الحقيقي ناهدة اسماعيل القريشي، دخلت الفن بعد مدة قصيرة من انتماء الفنانة آزادوهي صموئيل الى فرقة المسرح الحديث، وبالتحديد في عام 1956 عندما انتمت الى فرقة المسرح الحديث لتؤدي معها أول أدوارها الكبيرة لشخصية (امرأة خرساء) في مسرحية (الرجل الذي تزوج امرأة خرساء) في العام 1957من إخراج سامي عبد الحميد ، وهو العمل الأول الذي يخرجه سامي عبد الحميد، وقدمت المسرحية على قاعة مسرح الأمير عبد الله في الاعظمية، وكانت ناهدة الرماح في تلك الفترة قد انتهت توا من تمثيل بطولة فيلم (من المسؤول)، وكان تحت الانجاز والذي عرض فيما بعد في عام 1957. نشأت ناهدة الرماح في بيت كان فيه شقيقها ناشطا سياسيا، تقول (نشأت في أسرة سياسية، وعيت وأنا اسمع كلمات مثل الحرية والدكتاتورية والسلام والاستعمار، ومنذ طفولتي تجولت بين السجون والمعتقلات في الكوت وبعقوبة والموقف العام ونقرة السلمان وسجن النساء)، كما تعرضت للاعتقال من قبل الحرس القومي بعد انقلاب 1963، وعاشت الرماح في بيئة تتعاطى الشؤون السياسية، وكان شقيقها الأكبر الذي ينتمي إلى الحزب الشيوعي العراقي مسؤولاً عن نقابة عمال المطابع في بغداد، وبسبب الانتماء السياسي، تعرضت الفنانة للملاحقات إبان حقبة الستينيات، وانتهى بها الأمر إلى معتقل النساء ثلاثة أشهر.. وكانت في السجن تقدم أدواراً تمثيلية للتخفيف من وطأة الاعتقال، ومواجهة التحديات بصبر حتى أطلق سراحها لتعود إلى وظيفتها في أحد المصارف العراقية. لكنها ظلت متعلقة بالمسرح الذي سرعان ما عادت إليه بعد إعادة ترخيص تشكيل (فرقة المسرح الفني الحديث) برئاسة الفنان الكبير إبراهيم جلال، وأعيد تعيينها بعد عام 1968 كموظفه في مصلحة السينما والمسرح بعد ان شملها أيضا قرار إعادة المفصولين السياسيين إلى وظائفهم الذي صدر من الدولة آنذاك. وعملت كذلك في دائرة الإذاعة والتلفزيون مطلع عام 1971 في قسم برامج الأطفال، وكانت تعد نصوصا إذاعية، لكن مضايقات النظام السابق أحالتها على التقاعد عام1973.
وتقول إنها طالما تحتفظ بالملابس التي ترتديها في كل المسرحيات التي قدمتها مثل «النخلة والجيران» مأخوذة عن رواية الراحل غائب طعمة فرمان، وهي من محطات التألق للمسرح العراقي. ومسرحيات «الخان» و«الشريعة». فالخشبة مقدسة في كل مكان، غير أن لخشبة المسرح العراقي خصوصية، فروحي هنا في بغداد، وأردت أن أقدم عملاً أمام الناس الذين كنت أتذكرهم وأتابع معاناتهم اليومية وأسمع عنها». وتضيف «رأيت مشاهد مروعة عندما كان شقيقي يعود من المعتقل كل مرة، وملابسه مغطاة بالدماء نتيجة التعذيب». وغادرت الرماح العراق عام 1979 إلى لندن للعلاج ومكثت هناك ستة أشهر، ثم انتقلت إلى رومانيا وتشيكوسلوفاكيا، كما استقرت في لبنان عامين عانت خلالهما من العوز والفاقة، غادرت بعد ذلك إلى دمشق، ثم عادت إلى لندن عام 1983 بعد ان فصلت من وظيفتها التي كانت تشغلها في أحدالبنوك بسبب المسرح. ناهدة الرماح ولجت مجال السينما أولا، كزميلتها الفنانة الكبيرة زينب، قبل أن تصعدا خشبة المسرح. ودخلتا كلتاهما هذا المجال عن طريق إعلانات كانت منشورة من قبل الشركتين السينمائيتين في الجرائد تطلبان فيها وجوها نسائية جديدة للعمل في فيلمين هما: (من المسؤول) و (سعيد أفندي) على التوالي. تقول (دخلت صدفة عن طريق شركة سومر مع المخرج عبد الجبار ولي لأمثل مع في فيلم (من المسؤول) فمثلت بكل عفوية وبساطة فسمعت الكثير من كلمات الاطراء لكني لم أكن مقتنعة بما اؤديه وكنت اظن مع نفسي باني لا أحسن التمثيل). ساعدها في دخول مجال الفن زوجها شوكت الرماحي، فضلا عن والدتها. وكان زوج ناهدة الرماح يرافقها في التمارين، وأحيانا والدتها المساندة الثانية لها في العائلة وظهرت في الفيلم أيضا ببعض اللقطات كنوع من تضامن قوي معلن من أم تؤيد وتزكي خطوات ابنتها في الحقل الفني.
أهم أعمالها في فرقة المسرح الحديث والتي يتذكرها فيه جمهورها في المسرحية الشهيرة (النخلة والجيران)، (الخرابة)، (المفتاح)، (القربان)، (الصوت الإنساني) وأعمال عديدة أخرى. وحصلت خلال مسيرتها الفنية في المسرح على عدد من الجوائز لنشاطها الإبداعي في المسرح، وجوائز تقديرية عديدة. ومثلّت كذلك مع فرقة المسرح الفني الحديث «أني أمك يا شاكر..» و»الخال فانيا» للروائي تشيخوف وإخراج عبد الواحد طه و»مسألة شرف» تأليف وإخراج عبد الجبار ولي. ومن أفلامها: من المسؤول؟ وسعيد أفندي 1957 والظامئون 1973 (مقتبسة من رواية عبد الرزاق المطلبي وإخراج محمد شكري جميل) ويوم آخر 1974.
زاملت ناهدة عددًا من الرواد الكبار مثل: ابراهيم جلال ويوسف العاني وسامي عبد الحميد وقاسم محمد وخليل شوقي، وزينب ومجيد العزاوي وقاسم حول وغيرهم. وتمتّعت بمرونة كبيرة في اختيار أدوارها، ولم تتوقّف عند لون واحد، بل حاولت أن تجرّب العديد من الأدوار ذات الأبعاد المركّبة، وهو ما منحها مكانة كبيرة على خريطة المسرح العراقي، وحظيت بحب خاص في قلوب الجمهور.كم امثلت في مسرحية “حكاية الرجل الذي صار كلبا” للكاتب “اوزوالدو دراجون” وإخراج: “قاسم محمد”، شاركها التمثيل: “صلاح القصب”، “روميو يوسف”، “خليل عبد القادر” ومسرحية “بغداد الأزل بين الجد والهزل” إخراج “قاسم محمد” ومسرحية “الخرابة” للكاتب” يوسف العاني” وإخراج مشترك لقاسم محمد” و” سامي عبد الحميد» ومسرحية «نفوس» (لمكسيم غوركي) إعداد وإخراج قاسم محمد، ومسرحية «القربان» للروائي غائب طعمة فرمان من إعداد ياسين النصير وإخراج فاروق فياض.وفي وهذه الاعمال خلّدت اسمها كممثلة كبيرة.
تأثّر جيل ناهدة الرماح بمقولة «أعطني خبزًا ومسرحًا أعطيك شعبًا مثقّفًا». والمسرح باعتباره أبو الفنون، لأن المسرحية مبنية على الرواية، هذا الفن القصصي كمرآة للحياة، بما فيها من صراع وجدل وخير وشر وجمال وقبح وكفاح وخضوع، تدخل فيه الموسيقى وأحيانًا الغناء والرقص في لوحة ميلودرامية ممزوجة بحبكة فريدة. وعلى الرغم من الخبرة الكبيرة التي اكتسبتها ناهدة الرمّاح من عملها المسرحي مع كبار الممثلين والجرأة الأدبية والقدرة على مواجهة الجمهور والبداهة التي تمتاز بها، فضلًا عن الحيوية والحضور الآسر، إلّا أنها كان يتملّكها نوعاً من الخوف أقرب إلى الرهبة في مقابلة الجمهور، وقالت إنها تشعر وكأنها تواجه الجمهور لأوّل مرّة حتى تكاد ترتجف، وهو ما أصابها عند أوّل مواجهة للجمهور. وبالطبع فذلك شعور بالمسؤولية من جانبها واحترامًا لجمهورها ولنفسها أيضًا، خصوصًا وقد توثّقت تلك العلاقة الحميمة بينها وبين جمهورها.
انتمت الرماح روحيا وفنيا إلى فرقة «المسرح الفني الحديث» في العام1956، وتتلمذت على يد عمالقة المسرح العراقي، مثلت في معظم مسرحيات الفرقة أبرزها: «النخلة والجيران»، «وانا أمك يا شاكر»، و«القربان»، التي تألقت فيها وأبدعت، لكنها فقدت بصرها، وهي في ذروة نجاحها وتألقها، أصيبت بتلف في شبكية العين أثناء أدائها دور (زنوبة) في مسرحية القربان، إعداد ياسين النصير عن رواية لغائب طعمة فرمان، وإخراج فاروق فياض عام 1976 ، وفقدت بصرها تماما في المشهد الاخير من المسرحية حيث تذكر جملة «صرت فانوس لكل اللي يعرسون»، وأرسلت الى خارج العراق للعلاج فورا ، وخضعت لعدد من عمليات ترقيع الشبكية، ثم عادت الى بغداد ، وعلى لسانها تقول (أثناء وصولي إلى بغداد كان هناك استقبال جماهيري لا يمكن وصفه، رميّت عليّ الحلوى والورود والموسيقى الشعبية، ونحرت الذبائح، لا أنسى ذلك الموقف أبداً لا أنا ولا جمهوري أيضاً، وحين أبصرت الجمهور الذي جاء لاستقبالي نسيت الظلام الذي عشته. وأردفت: أن حب الناس هو النور. وبعد  ان اشتدت حملة حزب البعث المقبور على الفنانين والمثقفين المعارضين لهم وسلطة الدكتاتور في السبعينات، ما جعل صاحبة «مسألة شرف» أن تغادر العراق عام 1979 إلى المنافي، حيث استقرت في لندن. وعن هذا تقول: في عام 1979، في بداية الشهر الأول بالتحديد، تركت أرض الوطن مجبرة بقلب مجروح وعين دامعة، بعد أن تعرضت إلى مضايقات كثيرة.. حاولوا قتلي وقتل ابني، وتعرضت إلى محاولات ومضايقات نفسية منها محاولة إبعادي عن جمهوري، لكني حافظت على مبادئي ولم أتنازل عنها أبداً، وقد منعوني حتى من دخول دار الإذاعة والتلفزيون بعد أن تجاهلت صدام حسين أثناء حضوره في الإذاعة والتلفزيون وشاهدته وجهاً لوجه ولم أسلم عليه ولم أنظر حتى في وجهه فأثرت جنونهم. على إثر هذا اضطرت الى اللجوء في بريطانيا بمعية كل أفراد أسرتها بعد تنقل وتشتت بين لبنان وسوريا ودول اشتراكية سابقه وأوروبا.
لذلك حضور ناهدة الرماح كممثلة بالمسرح يُعدّ من التفاعل المباشر مع الجمهور ميزةً لبعض ادوراها، وقد يكون كذلك في عروض أخرى، فهي ذو خبرة تساعد على معرفة متى وكيف تتفاعل مع الجمهور. تبتكر شخصيات واقعية شعبية بحيث لا تقتصر علاقة الفنان بالجمهور دائمًا على كسر الحاجز الرابع والتفاعل المباشر مع الجمهور. بل غالبًا ما يعني ذلك أداء شخصية مشبعة بشخصية محبوبة مرتبطةبالشخصيات الواقعية، التي يسهل التعاطف معها، ذات المشاعر والدوافع الواضحة، تجذب الجمهور إلى الحكاية بالعرض. فقد خططت ناهدة كممثلة موهبة جيدًا للحظات التفاعل المباشر مع الجمهور. قد يبدو كسر الحاجز النفسي أثناء مشهدها «النخلة والجيران « السكرانة، وهو مشهد درامي كوميدي مؤثر، ولكن لا بأس بذلك عندما يطلب من الجمهور التصفيق، بالإضافة إلى كيفية استجابة الجمهور، عند تحديد توقيت لحظات التفاعل. هي تدرك يجب أن تكون العلاقة متبادلة. فاختارت التفاعل مع الجمهور، وعلى الرغم من أن التفاعل مع الجمهور يمكن أن يزيد من صدق الأداء وترابطه، كون العلاقة بين الممثل والجمهور يجب أن تشير إلى قدرتها على جذب الجمهور من خلال موقف مقنع لغة واداءً. بعد عام 2003 شعرت بحنين العودة الى العراق التي طالما حلمت به ديمقراطيا جميلا امينا، وحين عادت إليه عام 2009 وحاول الفنان سامي قفطان اعادتها الى خشبة المسرح من خلال مسرحية (صوت وصورة) تأليفه واخراجه واستعرض العمل اهم المحطات المسرحية التي جسدتها (ناهدة الرماح) خلال مشورها الفني، لحظتها قالت الرماح: لقد رأيت الليلة الذين حضروا الى المسرح وتعرفت على وجوههم واحدا واحدا. واضافت: لم أحس رغم سنوات الغياب الطويلة بأني بعيدة عن الناس وعلى الخشبة التي اعطيتها عيوني. كما شاركت ايضا في المسلسل التلفزيوني (الباشا)، للمخرج فارس طعمة التميمي. لكن ناهدة وإن كانت تعترف بخجلها آنذاك إلا انها صممت على أن تكون ممثلة، خاصة مع رأي الفنان الكبير بدري حسون فريد فيها انها (لن تصبح ممثلة طوال حياتها)، هذا اعتبرته تحديا ما جعلها تعزز من ثقتها بنفسها ومن ثقافتها العامة والفنية بالقراءة لكل ما كان متاحا آنذاك من مجلات وصحف، وتعلمت فنون المسرح على أصوله ( كما تقول ) على يد أساتذتها الأوائل في الفرقة، ابراهيم جلال وسامي عبد الحميد ويوسف العاني.
وفي الفرقة بدأت تدرس وتتعلم قواعد اللغة العربية وسلامة النطق بمساعدة زميلتها (زينب) التي كانت مدرسه للغة العربية والزملاء الآخرين المجيدين في اللغة العربية. فهي صراحة تقول (لم أكن أفكر مطلقا أن أغدو ممثلة، ففي مطلع الخمسينيات لم تكن هناك حركه فنية، والدخول إلى مضمار الفن كان يعد عارا وإساءة اجتماعية بالغة، لكني بدأت أتغير ونما عندي حب الفن تدريجيا من خلال مشاهداتي للأفلام السينمائية التي كانت تعرض في دور السينما آنذاك، واختلاطي بالوسط الفني من خلال حضور متفاوت لتمارين فرقة المسرح الشعبي، ومعهد الفنون الجميلة، بمعية السيدة ليلى العبيدي، سحرت بعالم الفن وأنشددت إليه بقوه غريبة). على الرغم من أن ناهدة الرّماح لم تصدر سيرتها أو مذكّراتها، إلّا أنها سجّلت مجموعة كاسيتات أرّخت فيها ليس حياتها فحسب، وإنما شملت تاريخ المسرح العراقي أيضًا، ويمكن أن أضيف أنها دوّنت أيضًا تاريخ الحركة الفنية العراقية ارتباطًا من المسرح وجزءا من تاريخ الحركة الوطنية العراقية. وربما لا يعرف كثيرون ما فعلته الغربة اللّعينة والمنفى الاضطراري لاحقًا بناهدة الرمّاح، خصوصًا وقد ازداد شعورها بالمرارة والوحدة وعمّق هذا الشعور من وجعها وعزلتها، فضلًا عن آلامها المبرحة بسبب ابتعادها عن خشبة المسرح تزامنًا مع ضعف بصرها، فما بالك حين عانت من الغبن والاجحاف في العهد الجديد بعد ازياح الدكتاتور، وأستطيع القول إن هذا الشعور كان يمتزج بالخيبة والخذلان لدرجة الخديعة والغدر.
وأكثر ما كان يوجعها في المنافي الباردة والحزينة هو الإهمال وعدم التقدير، وتلك كانت شكواها المستمرّة، إضافة إلى الابتعاد عن التمثيل والعمل الابداعي، والمسرح يختلف عن بقية أنواع الفنون والآداب والكتابة، فهو عمل جماعي ويحتاج إلى مستلزمات عديدة منها المكان المخصّص، ناهيك عن تحضير قد يستمّر لشهور من ملابس وإكسسوارات وماكياج وتدريبات وبروفات، وقد يحتاج إلى موسيقى وغناء، مثلما يحتاج إلى جمهور أيضًا ، في حين أن الشاعر أو الكاتب أو الباحث أو الرسام أو النحات أو الملحّن يمكنه أن ينجز عمله الإبداعي بمفرده وفي منزله أو مع بعض المستلزمات البسيطة، على عكس العمل المسرحي والسينمائي، الذي لا يمكن إنجازه فرديًا وإنما هو عمل جماعي، وهو ما عانى بسببه جميع المبدعين المسرحيين.
وكانت ناهدة تدرك مثل هذه الفوارق وتراودها حيرة وأمل وتحاول أن تتعاطى مع ما هو ممكن وتتحمّس لمبادرة ما، لكنّها في الوقت نفسه لا تجد الوسائل الكفيلة بتحقيقها أو الاستجابة لها أحيانًا من ظروف المنافي القاسية، سواء من دولة أو وزارة ثقافة أم مؤسسة سياسية أم إعلامية، والكل يتذرّع بالأولويات، خصوصًا سبل العيش، ناهيك عن شحّ الإمكانات، وهو ما عبّرت عنه في كلمة عند تنظيم فعالية تكريمية لها في منزلي بحضور نخبة من المثقّفين العراقيين والعرب، وقدّمت فيها أحد المشاهد المسرحية ورقصت وغنّت وهو ما جاءت عليه في رسالة إلى اللجنة اللجان الدولية لمنحها وسام أبرز مناضل لحقوق الإنسان.
لم تستطع الريح أن تكسر ناهدة الرماح، وإنْ انكسر قلبها بسبب الصدود والتنصّل والغدر، وما لاقته من البعيد والقريب أحيانًا. وعلى الرغم مما لحق بها من ظلم وإجحاف ولا مبالاة، إلّا أنها لم تكن ترتض سوى بعراق حرّ، وهي وإن اغتبطت حقًا برحيل الديكتاتورية، لكن حزنها أخذ يتعاظم بسبب استشراء المظاهر الطائفية والإثنية وتكريس نظام المحاصصة، حينها شعرت بتبدّد آمالها وتحطّم أحلامها، لدرجة كأن الضوء الذي ظلّت تنتظره لفترة طويلة صار أقرب إلى الوهم، وربما أصبح كابوسًا، كما عبّرت في إحدى المناسبات لها من بغداد.
حتى غيبها الموت في 22 آذار 2017 في إحدى مستشفيات بغداد بعد أسبوعين من دخولها غرفة الانعاش إثر إصابتها بحروق بالماء الساخن. وهكذا غاب نجم ناهدة وانطفأ مثل شهاب، وحسبي أن أردّد ما قاله غائب طعمة فرمان يوما في روايته ثم في مسرحيته «الحياة فظيعة ونحن لا نشعر بذلك، ونبدّدها في تفاهات بائسة ولا نكتشف سيرنا نحو الهاوية إلّا ونحن عند موت عزيز». وسيرة ناهدة الرمّاح فريدة وغير قابلة للتكرار.


تابعنا على
تصميم وتطوير