وقعت أسيرا للكتب في حياتي. أشعر بوحشة مريرة في بيت يخلو من الكتب، أحتاج الوجود المادي للكتب أكثر من احتياجي لمختلف الأشياء الكمالية في البيت، وحتى بعض الأشياء الضرورية. حيثما أكون تصاحبني الكتب، في سفري بوسائل النقل، وإقامتي بالفنادق وأي محل أقيم فيه خارج البيت. لا أتردد على المقاهي وليست لدي هوايات خارج الكتب. أقرأ الصحافة منذ الصف الرابع إعدادي «العاشر»، وما زلتُ حتى اليوم تأكل قراءة الصحف والأخبار عبر الأنترنت ما لا يقل عن ساعتين من يومي، الصفحاتُ الوحيدة المنسية في قراءتي الصحف والمجلات الأسبوعية هي صفحات الرياضة.
الشغف بالكتب قديم يعود لمرحلة مبكرة من حياتي، والادمان على حضورها الدائم ترسخ بمرور الأيام. أعيش مع الكتب وكأنها كائنات حيّة تتكلم بلغة أتحسسها وأسكن إليها، وإن كنت لا أجيدها. أشعر أنها تتكلم وهي صامتة على رفوف المكتبة، أحس كأنها ترقبني برفق وهي مبعثرة في غرف البيت، وتفيض بالهدوء حين تلبث بجواري على الدوام حتى في غرفة النوم. بعض الكتب تمكث مهملة سنوات لاأقرأها، وجود الكتاب يشعرني بالأمن النفسي، ويؤنسني حين أشعر بوحشة الوجود. الكتاب الذي أقتنيه أو يهدى لي، أقرأ مقدمته ومحتوياته، وأتعرف عليه بالتدريج كما أتعرف على الأصدقاء. إن كان لا فائدة فيه، لا يضيف لمعرفتي شيئًا، ولا يغذّي لغتي، ولا يؤنسني،أشعر بأنه عبء على المكتبة، كما لو أني أحمله على أكتافي، فأطرده حتى لو اشتريته بثمن كبير. الحافز الذي يغويني بشراء الكتاب هوالحاجة النفسية الشديدة له، والشعور بأنه أحد مهدئات الاكتئاب.أتساءل لماذا الاستمرار باقتناء الكتب وتكديسها بهذه الطريقة الغرائبية، أليس هذا السلوك يثير أكثر من استفهام، إن كنت غير محتاج لها آنيًا، أو متأكداً من عدم توفر فرصة قريبة لمطالعتها؟ لم أجد جوابًا منطقيًا، سوى إدراك حاجتي لها، الذي لا أعرف بواعثهبوضوح، أتحسس الاحتياج العاطفي لها أكثر من العقلي. مضافًا إلى وهم يتملكني، وربما يتملك غيري من عشّاق الكتاب، بأن امتلاك الكتاب يعني الامتلاء بالضوء الذي ينبع منه، وينكشف فيه شيء مما هو محتجب في الذات والآخر والعالَم من حولنا. بداية مطالعاتي كنت أبحث عن أي كتاب أقرأ عنه أو أسمع به أو أراه،أسعى مباشرة لشرائه عندما أمتلك ثمنه، إلا أني غادرت هذا النوع من الولع الفوضوي بالكتاب منذ نصف قرن تقريبًا. تواصل الولعبشكل مختلف ولم ينطفئ، أصبحت أنتقي عناوين أحسبها نوعية، وطالما خذلتني توقعاتي بمضامين الكتب وقيمتها الفكرية والابداعية.ما يخدعني من العناوين يؤذيني، أحاول أن أتريث وأدقق لأرى فربما يكون حكمي متسرعًا على كتاب واحد، وأحاول تكرار التجربة مع كتاب ثان وثالث للكاتب ذاته، عندما أتأكد من وهن قلمه أهمله للأبد. لا أظن أني تحررت أو أتحرر تمامًا من الولع بالكتب، مازلتُعندما أكون في مجلس وأرى كتابًا بيد أحد الجالسين أو على منضدة، يقودني الفضول للتعرف عليه بطريقة لا أرتضيها أحيانًا.الشعور بالحرج من إنسان التقيته أول مرة، يدعوني للتردد بطلب الإذن من صاحبه، والمغامرة بسؤاله عن الكتاب وإمكان الاطلاع على عنوانه ومحتوياته. حاولت التخلص من هذه العادة، إلا أني فشلت، مثلما فشلت بالتخلص من ادمان مصاحبة الكتب حيثما أكون. حين أظفر بكتاب أبحث عنه مدة طويلة أعيش حالةَ ابتهاج تتواصل أيامًا، وحين أتردد بشراء كتاب لم أعثر عليه لاحقًا، ربما ألبث سنوات أشعر بالضجر كلما تذكرت لحظة الاعراض عن شرائه، أو لم تسعفني قدرتي المالية لتأمين ثمنه ذلك الوقت. أتذكر أول زياراتي لشارع المتنبي سنة 1973 عندما كنت طالبًا ببغداد، لم تكن المكتبات في الشارع بهذه الكثافة وهذا الحضور الواسع المتنوع اليوم. دخلت المكتبة العصرية للحاج صادق القاموسي، الذي لم يكن يعرفني ولا أعرف عنه شيئًا وقتئذ، رأيته والشيخ أحمد الوائلي جالسين يتحدثان، بعد السلام عليهما، سألت القاموسي عن كتاب رأيته بتجليد أنيق في عدة مجلدات بحجم الموسوعات على أعلى رف في المكتبة، فأجاب: هذه «دائرة المعارف: قاموس عام لكل فن ومطلب» لبطرس البستاني، وذكر رقمًا كبيرًا ثمنًا لها، وأضاف: أنت لا تحتاجها بهذا العمر. لم يكن في جيبي سوى بضعة دنانير، ما تبقى من سلفة شهرية تمنح لطلاب الجامعات والمعاهد تلك الأيام. لم تمت هذه القصة في ذاكرتي، ظلت ترافقني حتى اليوم، كلما تذكرت ذلك الموقف الذي مضى عليه نصف قرن تمنيت لو اشتريتها ساعتها، وأحيانًا أتحسر للعجز عن اقتناء دائرة معارف البستاني. لو كنت قادرًا على ثمنها واشتريتها ربما كانت احدى محطات الاستراحة في حياتي، ولعلها تجدد بهجتي بمشاهدتي لها راقدة على رفوف المكتبة، وإن كنت لا أقرأها، ولا أعود إليها إلا نادرًا. كنت أتردد على مكتبة الصديق عصام الطيار «أبو جعفر» وغيره في سوق الكتب بمدينة قم في ايران أكثر من مرة في الأسبوع قبل أكثر من ربع قرن. عصام مثقف أخلاقي مهذب، قارئ متمرس، خبير بعناوين الكتب ومحتوياتها، أعود إليه للتعرف على مضمون الكتاب وقيمته العلمية، رأيت في مكتبته للبيع «دائرة المعارف الإسلامية» في طبعتها العربية الثانية المنقحة في تسعينيات القرن الماضي، بترجمة: أحمد الشنتناوي، وإبراهيم زكي خورشيد، وعبد الحميد يونس، سألته عنها، فأجابني: هذه الطبعة في 13 مجلدًا، توقفتْ عند حرف الشين، وهي أجود من الطبعة الأولى بكثير بما تشتمل عليه من تنقيحاتوتعليقات مهمة. ذلك اليوم ترددت بشرائها عندما رأيتها مطبوعة بورق غير جيد على الرغم من امتلاكي لثمنها. ندمت بعد أيام، لما عدت للأخ أبي جعفر وأخبرني أنه باعها، تألمت لما فرطت فيه. الغريب تنامي هذا الندم بمرور الأيام،كنت كمن يفتقد كنزًا عافه وهو بثمن زهيد.كلماتذكرت ذلك تأسفت، أعرف أنه لا يتسع وقتي لمطالعتها، ولا أحتاجها كثيرًا. هذه مواقف ربما تبدو غريبة لأكثر القراء، غير أني عشتها، وأظن أن تشبع الإنسان بمناخات الكتب يجعله يتحسسها بوصفها ملاذًا يأوي إليه أوقات الضنك، أو كأنها مرآة يرى فيها الصورة المحببة لوجوده.
ورطني شغف الكتب بموقف محرج، كاد يودي بحياتي. بداية شهر ابريل/نيسان 1980، بعد وصولي للكويت هاربًا من بطش صدام حسين بعشرة أيام، اكتريت سيارة أجرة من بيت أخي الحاج أبو عادل آنذاك الذي أقمت فيه، إلى شارع فهد السالم المعروف بشارع الجهراء في الكويت. ذهبت إلى مكتبة «وكالة المطبوعات»، وهي مكتبة تعرفت عليها قبل سنوات في زيارة سابقة للكويت، من أهم اصداراتها سلسلة الأعمال الثمينة لأستاذ الفلسفة الشهير د. عبد الرحمن بدوي، عندما كان أستاذًا في جامعة الكويت. دخلت المكتبة التي تتألف من طابق أرضي لبيع اللوازم المدرسية والقرطاسية، ومخزن واسع للكتب تحت الأرض، يتسع لعدد كبير من المطبوعات اللبنانية والمصرية ومختلف البلاد العربية.كانت مكتبة غنية متنوعة، يتراكم على رفوفها كثيرٌ من الكتب الثمينة، مما كنت أسمع بها ولم أطلع عليها من قبل، بعد تزايد عدد عناوين الكتب الممنوعة من دخول العراق. وصلت المكتبة الساعة العاشرة صباحًا، وانغمرت في كنوز رفوفها، أمسك كتابًا يستدرجني عنوانه فأبحث عن مضمونه، أقرأ المحتويات، وأقلب صفحاته، أقرأ نص الغلاف الأخير، وأحيانًا أقرأ مقدمة المؤلف.شغلتني كتب مهمة، وفرحت بعناوين أمضيت عدة سنوات في البحث عنها. لم أتنبه إلا بعد مضي نحو خمس ساعات من الأُنس بمعاشرة الكتب، خرجت من المخزن لأغادر المكتبة فوجدتها مقفلة. لم يكن صاحب المكتبة عبد الله حرمي يعلم بوجودي، أغلق الباب الذي كان من الزجاج، وخرج ليستريح الظهر في بيته، من دون أن يطفئ الانارة أو المراوح في المكتبة. قلقت لشعوري بتوريط نفسي بموقف شديد الحرج، ظننت أن صاحب المكتبة سيرتاب بعد عودته، لحظة يرانيوكأني استغفلته بالبقاء بمكتبته، وربما يشاهدني شرطي من وراء الزجاج فيظن أني سارق، وسرعان ما يقودني إلى السجن. المشكلة كانت بدخولي للكويت من دون جواز سفر، وليست لدي أية وثيقة تثبت اقامتي القانونية في البلد، المصير الحتمي لحالات كهذه هو التسفير للعراق، وسأكون صيدًا ثمينًا لجلادي نظام صدم، لو حدث ذلك قد ينتهي مصيري إلى أن أقضي تحت سياط هؤلاء. لبثت أترقب عودة صاحب المكتبة بوجل، لحظة دخوله المكتبة الساعة الرابعة والنصف عصرًا، لم أتحسسه إذ كنت أواصل السياحة بين الكتب في السرداب، صعدت ففوجئت بوجوده، كان الطابق الأول لوكالة المطبوعات مزدحمًا بأشخاص يبتاعون قرطاسية. خرجت من المكتبةبهدوء، من دون أن يتنبه هو لخروجي، بعد خطوات شعرت بحرج أخلاقي لمكوثي بمكتبته، وتقليب الكتب والاطلاع عليها عند غيابه دون إذنه. قررت العودة مهما كانت العواقب، عدت مسرعًا وقلت له: أعتذر منك، مكثتُ في المكتبة عندما أغلقتَ حضرتك الباب الخارجي، لم أكن أعلم بمغادرتك لاستراحة الظهر، ولم تعلم بوجودي لحظة اغلاقكالمكتبة. ظهر على وجه عبد الله حرمي الذهول والخجل، أجابني بلطف معربًا عن أسفه لما حدث. لن أنسى موقف هذا الرجل المهذب بعد مضي كل هذه السنوات،كان بإمكان صاحب وكالة المطبوعات اتهامي وتسليمي للشرطة، ووفقًا للقانون سأُرحّل للعراق، وأغلب الظن يكون مصيري الإعدام.
أنقذني هذا الرجل النبيل من مغامرة لم أكن مضطرًا أن أزج نفسي فيها، بلا حساب للوضع الطارئ الذي كنت فيه،كانيمكن أن تودي تلك المغامرة إلى الهلاك.