رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
نهر دجلة الخالد وبلامة الشط .. خواطر وطرائف لا تمحوها الأزمنة


المشاهدات 1581
تاريخ الإضافة 2025/01/29 - 9:49 PM
آخر تحديث 2025/02/18 - 11:36 AM

 الحديث عن نهر دجلة يحمل في طياته حقباً من الالم والشجن فهذا النهر كان مرتعا لذاكرة من التأريخ لمدينة كانت حاضرة الدنيا، يوم كان الانس والفكاهة والخلاعة والتوأمة وحلقات الشعر سمة من سماتها .. في هذا الموضوع الجميل نتناول جانبا مهما عن دجلة الخير وطرائف البلامة والحياة البغدادية الجميلة وذكرياتها العطرة التي ما زالت تنعش النفوس وتعطر الخواطر .. 
جلسات السمار والسهارى 
الباحث التراثي الاستاذ سرور ميرزا محمود يتحدث عن دجلة وليالي بغداد الساهرة فيقول : كانت جلسات السمار والسهارى تصدح بالغناء والاستمتاع لأبوذيات ومقامات مغني الشط على ضفتي هذا النهر حتى ساعات الفجر الاولى على هدير موجه، فالجراديغ آنذاك كانت معشوقتي، تذكرت الأصوات الوحيدة التي تصل آذان سكان الجراديخ الذين يعيشون فيها في الصيف هي تغريد الطيور المهاجرة وحفيف النخيل المتمايل مع الريح ورقرقة مياه دجلة وهي تداعب أطراف شواطئها، ذكريات التحدث عنها تجعلني أغوص في زمن الشباب الذي كان ليالي الصيف في سكونها الجميل، والقمر يعكس ضياءه دجلة الخالد، الذي يتدفق بهدوء يحكي قصص كل العصور، كاتم الأسرار، شاهد على العشاق، شاهد عن سياسات صانعيه، شاهد عن مؤامرات الغير عليه، شاهد على أغانيه واشعاره، وعلى حكايات الفراق، على سطحه تمخر الزوارق، شاهد عن زوارق النزهة والسمر، ومراكب الصيد حاملة مصطادته شبكاتها.
الأمسيات الشعرية 
ويضيف : الجراديغ التي تتواجد فوق صفحة دجلة هي أحد معالم بغداد في الصيف ايام زمن الخير، ففيها كانت الأمسيات الشعرية والغنائية والسياسية، عاش فيها صفوة المجتمع البغدادي في القرن الماضي من وزراء وعسكريين وفنانين وصحفيين ومثقفين، ومن مشاهد دجلة التي لم يعد لها وجود منذ ستينات القرن الماضي هي الجراديغ، وهي ابنية بسيطة ومؤقتة تُقام في فصل الصيف فقط وعلى ساحلي النهر مباشرة، الجراديغ غرفة من الحصران مثبتة بواسطة (المرادي) وواحدها من المردي ويكون من جذوع الاشجار غير السميكة وكان بعض هواة قضاء ليالي الصيف على ساحل دجلة يتفننون فيجعلون حولها سورا من الحصران ذاتها فيكون للغرفة فناء وقد يقيمون مرافق اخرى، والبناء يتكون من بضعة اعمدة خشبية مع عدد من الحصران المصنوعة من قصب البردي وتسمى (البارية)، وتقوم هذه (البواري) مقام الجدران والسقف، ولاتزيد مساحة الجرداغ عن مساحة غرفة متوسطة الحجم، وقد جرت العادة ان يقضي الشباب والرجال الاكبر سناً اوقاتاً طويلة في هذه الاماكن، تبدأ من العصر وقد تستمر الى مابعد منتصف الليل وفي كثير من الأحيان ينامون فيها،  وبعض منهم اعتادوا جلب عوائلهم الى جراديغهم مرة في الاسبوع لقضاء بضع ساعات من الليل فيها ثم العودة الى المنازل.
ذكريات جميلة 
ويتابع : كانت الجراديغ تقام على ساحلي دجلة في الكاظمية والاعظمية يوم كانتا من نواحي مدينة بغداد ثم صارت الجراديغ تنصب على ساحل دجلة في الباب الشرقي قبل ان يتم افتتاح الشارع الذي نعرفه اليوم بشارع ابو نواس، وكانت تقام بعض الجراديغ متفرقة على الجانب الاخر من دجلة كما عرفت بغداد جراديخ خاصة بتعليم الصغار السباحة تنقلب بحلول الليل الى مقاهٍ وبارات، ونخص بالذكر منها تلك التي كانوا يقيمونها في المجيدية حيث مدينة الطب الآن، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية صار على من يريد نصب جرداغ الحصول على الاجازة من متصرفية بغداد.
 الأغاني والشعر   
ولما عرفت بغداد الحاكي (الفوتوغراف) صاروا يأخذونه واسطواناته معهم ويسمعون الاغاني، يمرحون ويمزحون وينزلون الى النهر، ويتسابقون بالسباحة والمصارعة والجري ولعب كرة الطائرة، وغالباً مايكون الليل مخصصاً للاغاني والشعر وأحياناً السباحة .
 معالم دجلة الخالد 
وهنا يتحدث الباحث محمود عن معالم دجلة فيقول : من معالم دجلة ومناظرها التي لاتنسى والذي يتذكرها الكرخيون مشهدا جميلا يعود كل سنة مرة واحدة ويلاحظه بتشوق ومحبة من جراديغ الرصافة في العيواضية، هو مشهد (شموع الخضر) وهو معتقد ديني تمارسه النساء ايفاء لنذر قطعنه على أنفسهن، وهذا المعتقد يقضي ان تقوم المرأة بإحضار (كربة) او اكثر من كرب النخيل وتضع فوقها عدداً من الشموع الموقدة ثم تدفع الكرب في النهر حيث ينساب طافياً فوق سطح الماء مع مجرى النهر، ولما كان ذلك يتم وقت غروب الشمس، وهو أمر يصعب على المرأة تنفيذه لوحدها كون الغروب وقتاً محببا لخروج المرأة بمفردها، لذلك كان الحضور الى دجلة يجري على هيأة مجاميع نسوية، وهذا يعني دفع عشرات الكرب مع مجرى الماء مرة واحدة مما يخلق منظراً خلاباً لان النهر يُضاء بمئات الشموع.
منظر صيادي الأسماك                                     
ومن جماليات دجلة البغدادية المحصورة يومها بين الكاظمية والأعظمية والعطيفية والباب الشرقي، فبالاضافة الى استمتاعك بما يحمله جو الجرداغ هو منظر صيادي السمك واغانيهم وشباكهم الممتدة على طول النهر وخاصة في اوقات الصباح الباكر وهم يعودون بما حملت شبكات صيدهم من سمك النهر.
عوسي الأعظمي 
ويضيف : من أشهر الجراديغ في الاعظمية جرداغ عوسي الأعظمي وجرداغ قحطان القصير وجرداغ نادي النعمان وجرداغ نادي الأعظمية وجرداغ عدنان الدوري وفخري الزبيدي وجرداغ حسين بن علو في الصرافية وجرداغ شرطة النجدة والذي أنشاه الرياضي الدكتور عبد القادر زينل في العيواضية قرب مدينة الطب وجرداغ وزارة المعارف على ساحل مستشفى الولادة في الكرخ بإدارة أكرم فهمي وجرداغ ياسين الصدر في العطيفية وجرداغ منشي في المربعة وجرداغ وجيه عبد الغني ومن رواده حقي الشبلي وجرداغ هاني في السنك وجرداغ يعقوب في أبو نواس، وهناك جراديغ أخرى في محلة السيد سلطان علي وفي الكرادة نهاية شارع ابي نواس وغيرها.
حكايات البلامة 
ويتحدث الباحث ميرزا عن بلامة دجلة قائلا : البلم كما يحلو للبغداديين تسميته، منذ القدم مع جريان الأنهار والروافد والاحواض المائية في العراق ينبض على ضفافه، فالبلم هو زورق نهري صغير ذو مجذافين وكان منتشرا بشكل كبير في انهر العراق، خصوصا في نهر دجلة حيث كان يحمل الناس رجالا ونساء من مشرعة الى مشرعة في منافذ معروفة تفضي اما الى سوق اما الى شارع، فقد اصبح الوسيلة الرئيسية لصيد الاسماك ونقل الامتعة بين محلات بغداد المحاذية للنهر، وكذلك استخدم في السفرات النهرية واللهو والاستجمام.. البلم العنوان الاول لجمال دجلة، لاشيء يضاهي النهر اوقات العصر بالذات، حيث عشرات الزوارق تعوم فوق الماء وهي تقوم بسفرات نهرية، سواء للعوائل ام للشباب، وان كانت الصفة الغالية هي للشباب وهم ينقرون على (الدنابك)، الآلة الموسيقية الشعبية ويطلقون اصواتهم لترديد الاغاني الشائعة يومها، عبير دجلة الذي ينقل لنا في ليالي الصيف الواناً من المقامات والبستات وهي تنطلق من حناجر بغدادية لا يطيب لاصحابها السهر الا بين احضان نهرهم الخالد.      
وسائط للنقل 
ويضيف : كان الزورق او مايعرف بـ(البلم) أحد اهم وسائط النقل بين كرخ بغداد ورصافتها، الى جانب واسطة نقل اخرى وهي (القفة) والتي انسحبت لصالح الزورق منذ منتصف خمسينات القرن الماضي، كانت القفف والزوارق قبل بناء الجسور الحديدية ودخول المركبات الى العراق، هي وسائط النقل الاكثر شهرة ورواجاً في بغداد، وكان المرسى الاساسي لها في منطقة الجعيفر (جانب الكرخ) حيث تقل العابرين الى منطقة باب المعظم (جانب الرصافة) عند مدينة الطب حالياً، حيث توجد وقتها اهم مؤسسة صحية في العراق، وهي مستشفى (المجيدية) نسبة الى مؤسسها, السلطان العثماني عبدالمجيد، ولاتزال بعض ابنيتها مستغلة ضمن مدينة الطب الى الوقت الحاضر، الى ان اشهر العاملين في الزوارق يومها دعبول الشخصیة الكرخیة الفكھة الظريفة صديق الباشا رئیس وزراء العراق نوري السعيد، كذلك كونه قارئا جيدا للمقام العراقي، ودعبول البلام، أصبح شخصیة معروفة في بغداد والعالم العربي حیث جسد الفنان القدير يوسف العاني حیاته بمسرحیة الشريعة، التي كان لھا صدى واسع حین عرضت على المسرح بدايات السبعینات من القرن الماضي، كما تناولته روائیا الكاتبة عراقیة المولد بريطانیة الأصل (أمل بورتر) ابنة الضابط البريطاني (بورتر) أيام الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1917والذي أحب العراق وتزوج من عراقیة، وعاش فیه حتى مات، والآخر هو جبوري البلام، والناس تطمئن الى عبور دجلة في زورقه اكثر من الاخرين مع أن هذا الرجل كان فاقد البصر (اعمى) ولكنه يعرف النهر شبراً شبراً كما لو انه على اليابسة، وكذلك البلام شهاب أحمد وفي الاعظمية سلمان. 
النزهات النهرية 
ويتابع : كانت الابلام يومذاك تتهادى فوق دجلة مع غروب الشمس في نزهة نهرية، وكان بعضعها يحمل السقيفة (التنته) الجميلة التي تعصم الازواج والعشاق من النظرات المتطفلة، فالبلامه في العراق تعد من تراث العراقيين وامجادهم التي لاتنسى لان هؤلاء البلامة تذكرنا بأمجاد اجدادنا، وانعكس البلم والبلام في التراث الغنائي العراقي، حيث وردت  في كثير من اغانينا:
(كل البلام تفوت) و (عمي يا بلام) و(يابو بلم عشاري) و (يابوالمشحوف تانيني) و (ي امعيبر ولك عبرني) و(يعجبني نزلة وياكللكاورية  تعطش واشربك ماي بجفوف ايدية)، لكن هذه الاغاني تختفي شيئا فشيئا كلما توغلنا في الاهوار حتى نستمع الى نوع جميل من الأغاني تختلف عما نسمعه في الإذاعة.. وهناك الكثير من اغاني الابوذية والموال والتي ترد فيها أسماء الزوارق بكثرة لما للزوارق من اهمية في حياة المرء في الاهوار.
ويتابع : دار الزمن دورته، وخفتت أنوار الجراديغ والجولات النهرية وبعض من البلامة يقتصر عملهم على الصيد ونقل المواطنين، بعد ان هجرها راغبوها الأصليون في عصر مميز بالناس والمكان والأحداث، ولكنها راسية، ولكن بمفهوم مختلف، ما زال يهواها راغبوها، منها ينبعث صوت أغاني زمان التي بقت ولم يستطع هذا الزمن أن يزيلها، ويمكن في يوم ترجع إليّ وحلم القلب يتحقق لي ولغيري من عاشها، وها نحن نعيد ذكريات الزمن الجميل فإنها من أجمل الأشياء التي تبقت لنا.


تابعنا على
تصميم وتطوير