الفنان القدير عزيز عبد الصاحب من مواليد الناصرية عام 1938، وهو أحد مؤسسي الفرقة القومية للتمثيل برفقة رائد المسرح العراقي حقي الشبلي، وعمل مديراً للفرقة القومية للتمثيل ردحاً من الزمن، قدّم خلال إدارته الكثير من الأعمال المتميزة...
وكان عضوا في اتحاد الادباء وعضوا في رابطة نقاد المسرح، كما ان التجربة الفنية والجمالية له في مجالات التمثيل والاخراج والتأليف المسرحي والنقد طيلة نصف قرن من مسيرته الفنية، بدأت اولا في الناصرية ومن ثم في معهد الفنون الجميلة في بغداد خلال أعوام (1959 ـ 1961) وتواصلت في الناصرية فيما بعد طيلة اعوام (1962 ـ 1968) وتجلت أخيرا في عطائه الثري مع الفرقة القومية للتمثيل والفرق المسرحية البغدادية منذ اواخر عام 1968 حتى رحيله في صيف عام 2007.
بدأ عزيز عبد الصاحب حياته شاعرا، وأصدر أربعة دواوين شعرية أحدها «صحبة ليل طويل السفير»، ثم تحول الى التمثيل ومن بعد إلى الكتابة المسرحية. فلم يكن كاتبا تقليديا جاءت به منضدة الكتابة، فقد نشر أولى مسرحياته عام 1964 بعنوان (رجال المسافات) في جريدة (الثورة العربية) آنذاك، ثم تتالت المسرحيات (شجرة العائلة) و(ابن ماجد) و(أين هم الآن) و(ليلة خروج بشر بن الحارث حافيا) و(الجوهرة) و(انطقي يا ابنتي) و(زوار الليل) مونودراما، وأخيرا (رغيف على وجه الماء)، واهتم كثيرا بمسرح الطفل وحرص على تقديم ادوار تمثيلية في الكثير من المسرحيات لقناعته بأهمية هذا اللون المسرحي في حياة الاطفال والنشء الجديد ومن تلك الاعمال التي شارك فيها «الصبي الخشبي و»سر الكنز» .كما حاز عن بعضها عدة جوائز منها جائزة «أفضل نص مسرحي» وتناول في الكثير من مسرحياته الجادة هموم الناس وتفاصيل حياتهم المتعبة وأغلب أعماله هذه قدمها مع الفرقة القومية للتمثيل.
أكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة في بغداد ففي عام 1958 تقدم لقسم المسرح بالمعهد فقبل فيه الى جانب نخبة من عمالقة المسرح العراقي الذين شكلوا فترة ذهبية عرفها الفن المسرحي في العراق خلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي وفي مقدمتهم الراحل طعمة التميمي ويوسف العاني وقاسم الملاك ووجيه عبد الغني وآخرون، وتخرج منه العام 1961 ثم عاد الى الناصرية، ليعود بعدها لبغداد ليكون أحد مؤسسي الفرقة القومية للتمثيل مع الفنان الراحل حقي الشبلي التي انطلقت في الأول من مايو/ أيار العام 1968 وقدم معها أول عمل مسرحي لها.
البدايات الجيدة هي التي صنعت وقدمت عزيز عبد الصاحب فنانا مجدا ، بدأت عام 1956 كان عاماً حاسماً في حياته ، إذ رسم ذاك العام المسار الذي مشى عليه فيما بعد ، ويعود الفضل في ذلك لمدرس اللغة العربية في حينذاك الأستاذ ( كاظم الشمري ) فقد كان صاحب ذائقة مسرحية متقدمة ، فبادر لإخراج مسرحية ( الملاح البائس ) للكاتب الفرنسي ( جان كوكتو ) وكان ممثلاً في ذلك العمل الى جانب زميله وصديقه الرائد المسرحي الراحل عبد الرزاق سكر ، وقدمت هذه المسرحية بنجاح كبير على مسرح ثانوية الناصرية ، وقد فتحت مشاركته في هذا العمل الرغبة لقراءة الآدب الغربي ، وتعرف على جان كوكتو وموليير وغيرهم من الادباء الفرنسيين والانكليز والأمريكان.
يعد بيت (ملا عمران) الذي نشأ فيه عزيز واحداً من أشهر بيوت الناصرية، طوال فترة الخمسينات والستينات والسبعينات، فهذا البيت الواسع الذي كان يقع في منطقة (السيف) ضمت عائلته الكبيرة من الأخوة والأخوات وأولادهم وأحفادهم، وكان للعديد من أبناء هذا البيت حضورهم المتميز في المدينة ونشاطاتها المتنوعة، بينهم الفنانون المسرحيون مثل عزيز عبد الصاحب وأخويه الفقيدين عدنان وعادل، كانت (ديوانية) بيت ملا عمران على أرائكها جلس فنانون وأدباء ورياضيون وسياسيون ومن بينهم قيس لفته مراد ورشيد مجيد وعبد الرزاق رشيد وخالد الأمين ويقظان الدرويش وعبد الرحمن مجيد الربيعي ومحسن العزاوي وحسين نعمة وعزيز السيد جاسم ومجيد السعدي وابراهيم وقاسم دراج وحسين الهلالي ورزاق النجار ورزاق خطار وعبد الكاظم إبراهيم وفائق حسين وحميد الجمالي وأحمد الباقري وموفق العظماوي وخالد غني وعباس هليل، وعشرات غيرهم من الكتاب والفنانين ومن أجيال مختلفة. أوائل الستينات، حيث كانت الناصرية لم تزل مدينة صغيرة لكنها غنية بتراثها الثقافي والادبي والمسرحي، كان عزيز عبد الصاحب واحداً من أبناء الناصرية المعروفين وكان من أوائل دارسي المسرح بمعهد الفنون الجميلة، وفي المعهد كان عمله المسرحي الاول مسرحية (أسعد رجل) للكاتبة السوفيتية «ليفينا»، ثم ممثلا في مسرحية ( الربيع ) من إخراج ( اسعد عبد الرزاق ) وتأليف ( عزي الوهاب ) وفي عام 1961 عمل مع الفنان جعفر السعدي في مسرحية (عذراء اللورين) أو (جان دارك ) للكاتب الأمريكي (ماكسويل أندرسون ) وفي هذا العمل تألقت الفنانة ( هناء عبد القادر ) وكانت تدرس في قسم الرسم، بعد تخرجه من المعهد عام 1961 تم تعينه في قضاء الشطرة بمحافظة ذي قار التي كانت تقع على شط الغراف ، وبعد ان باشر العمل في ثانوية الشطرة ، قرر أن يبني مسرحه في الثانوية نفسها، اشترى ستارة من قماش القديفة الحمراء نصبت في قاعة الثانوية وعلى مسرحها المهمل ، وبدأ التدريب على مسرحيتين ليوسف العاني هما ( فلوس الدوا و ست دراهم ) وكان تجاوب جماهير الشطرة كبيراً ، وقد جعل العرض مختلطاً للجنسين وكان الفنان عدنان شلاش ممثلاً فيها وكذلك مثل عدد من المدرسين من بينهم ( قيس الحلي ) و( خالد عبد القادر ) وساعده الفنان ناهض الخياط.
عام 1962 انتقل الى الناصرية حيث الآفق الرحب للنشاط المسرحي، وتعاون مع مجموعة من المثقفين من مسرحيين وتشكيليين وكتاب، وكان يركز على الدراما المحلية، إذ كان يعتقد أنه لا قيام لمسرح عراقي إلا بتطور الكاتب المسرحي العراقي، لأن العمل العراقي بلحمه ودمه هو الأنفع من تقديم عمل عربي أو أجنبي بعيدا عن أجوائنا وهمومنا وقضايانا، اخرج عزيز مسرحية (ثورة على الأقطاع) وهي مسرحية فلاحية كتبها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، ومن حسن الحظ أنه جيء بالفلاحين من مناطقهم لمشاهدة المسرحية، التي كانت تتحدث عن الهجرة من الريف للمدينة بسبب جور وظلم الإقطاعيين، ثم المسرحية التاريخية ( أكازو ) من تأليف قيس لفتة مراد ، وتتحدث عن وثيقة بابلية يتمرد فيها الشاعر على الملك فيأمر الأخير بقتله بعد محاكمة صورية ، وقد مثل دور ( أكازو ) في هذا العمل، كما مثل كل من الفنانين فاضل خليل وحميد الجمالي وعبد المطلب السنيد وكاظم إبراهيم وفؤاد جهاد وكان ذلك عام 1964 ، وأخرج في هذه الفترة مسرحية (المدمن) تمثيل فاضل خليل وحسين نعمة وعبد الرزاق سكر وحميد كاظم وإسماعيل العضاض وسلام السوداني، ثم أخرج مسرحية ( الغريب ) وكذلك مسرحية ( اسياد الدم ) وكانت هذه اخر أعماله المسرحية في الناصرية قبل الانتقال الى بغداد . لكن عند زيارته المتكررة للناصرية كان يتجول في شوارع المدينة ويرتاد مقاهيها خصوصاً مقهى ( أبو أحمد ) المكتظ بأصدقائه من الأدباء والفنانين يتحدث لهم عن بغداد وأجوائها ، وعن الفن والادب ، وكان يتابع الأعمال المسرحية التي تقدم وكانت كثيرة في تلك الفترة ، فقد أخرج بهجت الجبوري مسرحية ( الطقوس الأخيرة) وهي من تأليف عبد الكاظم إبراهيم ، كما أخرج صالح البدري مسرحية ( حفلة سمر من أجل 5 حزيران ) لسعد الله ونوس ، وأخرج حكمت داود مسرحية ( في انتظار اليسار ) ثم أخرج حازم ناجي مسرحية ( المسيح يصلب من جديد ) وأخرج صالح البدري ( سيرة أس ) ومسرحية ( ستربتيز ) .
كانت لعميد المسرح العراقي الفنان الراحل حقي الشبلي ثقة كبيرة به، وقد فاتحه عند زيارته للناصرية بفكرة تأسيس فرقة قومية للتمثيل، واقترح أن يكون من بين مؤسسيها، فانتقل الى بغداد ليكون في الأول من أيار عام 1968 واحداً من مؤسسي ( الفرقة القومية للتمثيل ) الى جانب حقي الشبلي ووجيه عبد الغني وسليمة خضير وقاسم الملاك وكامل القيسي وصفوت الجراح وفاطمة الربيعي وبهنام ميخائيل، كان حينها أعزباً وقد سكن في الوزيرية مبتدئاً رحلة المسرح الاحترافي اللذيذ .
عزيز عبد الصاحب الذي كان يحلم عندما يصل من مدينته الجنوبية المنسية الى العاصمة أن يمثل دور عطيل أو هاملت او لير وربما اوديب، ولكنه يصدم بإعطائه أدوارا ثانوية لقروي بسيط، لأنه يجيد لهجة أبناء الجنوب! وكان الروائي عبد الرحمن كتب قصة يقصد فيها طموح عزيز عن ذلك، إذ بالفعل لم ينتزع عزيز مكانته في الفرقة القومية في البدء كونها كانت تقدم باللغة الفصحى واحيانا بأجواء بغدادية صرفة، عموماً فقد احتاج الأمر الى سنين والى كفاح وعطاء ومثابرة وصبر .
ومع ذلك شارك عزيز في أول أعمال الفرقة وكانت مسرحية (وحيدة) وهي من تأليف وزير خارجية العراق أنداك (موسى الشهبندر)، وكان موضوعها يتحدث عن ثورة العشرين ومجابهة الشعب العراقي للاحتلال الإنكليزي، وهي مسرحية شعبية أخرجها فخري الزبيدي ومحمد القيسي، ومثل فيها دور الشرطي الذي يقتل (طاووس خان ) . وبعد مجيء البعث مجدداً للسلطة في 17 تموز عام 1968، سيطر البعثيون على الفرقة وقاموا بنقل الفنان حقي الشبلي ووجيه عبد الغني ثم قاسم الملاك وصفوت الجراح وتم تبعيث الفرقة، وبالرغم من ذلك فقد قدمت الفرقة مسرحيات (البيك والسايق) و (الطوفان) و(الحصار) وفيها مثل شخصية محمد سايس الخيل الذي يفقأ عينيه كي لا يرى حريق بغداد، المسرحية تأليف عادل كاظم، وقد قُدمت في دمشق أيضاً . والحقيقة إن الدولة لم تبخل في الإنتاج والصرف المادي ، ولكنهم فشلوا في قيادة الفرقة وفي إدارتها ، كانوا في جوهر حقيقتهم يريدون ان تكون الفرقة القومية منافسة لفرقة المسرح الحديث ونجومها الكبار ، اعتقادا منهم أنها تابعة للحزب الشيوعي العراقي، وكانت هذه المنافسة مفيدة في إنعاش وتنشيط العمل المسرحي في هذه الفترة في السبعينات، فقدمت مسرحيات ( دائرة الفحم البغدادية ) التي مثل فيها الفنان ( منذر حلمي ) فمنعتها السلطة بعد عرضها لليلة واحدة ، ثم بدأت إجراءات أكثر تشدداً، إذ كان يأتي مقدم من الأمن العامة ليشاهد العمل المسرحي الجديد للفرقة قبل تقديمه للجمهور أو قبل السفر به للخارج! وهذا ما حدث مع مسرحية (مسافر زاده الخيال).
وعندما أشعل النظام حربه مع إيران، طلب من الفرقة أعمالا تعبوية تمجد الحرب والطاغية، وقد اضطرت الفرقة لتقديم أعمال كهذه مثل مسرحية (فصيل على طريق المجد) من إعداد وإخراج الفنان سامي عبد الحميد وبالرغم من الصرف الهائل على هذه المسرحية إلا أن الجمهور أعرض عنها ولم تحظ بالاقبال المنشود! وفي هذه الفترة لم تقدم فرقة المسرح الحديث أعمالاً مهمة بسبب هجرة أسماء مهمة من الفرقة مثل زينب وناهدة الرماح وغربة يوسف العاني وروميو يوسف وغيرهم خوفا من تعقب السلطات لهم ممن اضطروا لمغادرة الوطن أواخر السبعينات!
عام 1990 كتب مسرحية (ليلة خروج بشر بن الحارث حافياً) وأخرجها الفنان سامي عبد الحميد وفيها تحدث عن النفاق الذي كان سائداً في تلك الفترة حيث تقول الجارية لبشر ( لا تخلط بولاً بعسل .. ولا تركب حصانين في وقت واحد، أحدهما للأمام والآخر للخلف.. ) وكانت دعوته في هذه المسرحية للإنسان أن يتوحد مع ذاته فلا يصفق وقلبه في ميدان اخر! وقد عرضت هذه المسرحية في المغرب بعد بغداد، وكانت اعماله في التأليف كثيرة ومتنوعة الأغراض والمضامين فكتبت مسرحية (أين هم الآن) التي أخرجها الفنان حميد الجمالي وكانت تدين الحرب، وقد حذفت السلطة فصلاً كاملاً منها، وكتب أيضاً مسرحية (الباب العالي) أدان فيها النظام متعكزاً على شخصيات تركية.. الروائي العراقي الراحل عبد الرحمن مجيد الربيعي، قدم خلال تجربته الادبية خمسين بين رواية ومجموعات قصصية ازدحمت بالشخصيات خاصة المسرحية منها التي عاشت معه سواء بالناصرية او بغداد ، في قصص (الوكر)، و(الوشم)، و(سر الماء)، و(وجوه من رحلة التعب)، وغيرها من اعماله الأدبية، وأدخلنا الى عالم رفاقه وأصدقائه وكيف عاش معهم؟ وما مدى تأثره بهم.. فيقول: نحن صنيعة أصدقائنا، لأننا نتأثر بالعالم الذي نعيش فيه، وبتوجهات الاصدقاء، مقهى التجار في الناصرية كان المكان الذي التقي به مع اهم أصدقائي، كان التجار يجلسون في زاوية يعقدون صفقات، ويتحدثون عن التجارة، وكنا نجلس انا واصدقائي في زاوية اخرى، كل واحد مع كتبه، ولم يكن أحد منهم تاجر بيننا المعلم، والموظف، والشاعر، والرسام. وهم، عزيز عبد الصاحب، واحمد الباقري، وحسن الهلالي، والمطرب حسين نعمة، وفائق حسين)، هؤلاء كانوا يشكلون عالمي، واستمد عوالمهم في الكثير من كتاباتي القصصية، وشخصياتهم واضحة في كتبي، أنا لا اقفز، ولا امر بأي صديق عاش معي، وكأن لم نعش سويا، ولم نحلم مع بعض، وانما اعيش معهم، ويعيشون فيّ، وحين أسترجعهم اكتب عنهم في تلك الحميمية، وبذلك الوعي. كنا ننتمي الى بعضنا، ونجد أنفسنا في بعضنا، كنا مغرمين في الشعر، والرسم، والغناء، وكنا نغرم بأغاني عبد الحليم حافظ، وكان (احمد الباقري) يمتلك صوتا جميلا فيغني لنا اغاني عبد الحليم على شاطئ الفرات فننسى أنفسنا، إذ يضع أحدنا يده على كتف الاخر، ونمشي، ونغني على (اد الشوك الي في عيونك) اما (حسين نعمة) في تلك الفترة فكان يغني لنا اغاني فهد بلان، وهو يمتلك أجمل صوت في العراق.
اما عزيز عبد الصاحب فكان يغني اغاني مطرب في الناصرية اسمه (خضير مفطورة). لذلك كان الناس في الناصرية يقولون علينا: ماذا يفعل هؤلاء؟ هل هم مجانين؟ وكنا نسهر في بيت أحدنا لنستمع الى حفلة ام كلثوم الشهرية، عالم أصدقاء كان عبارة عن تكوين فني هذا هو عالمي لم يكن لي عالما بديلا، هو تكوين فني مطعم بالغناء، والرسم، وكتابة الشعر، كتبت قصة عن مجموعة شخصيات هم بالحقيقة أصدقائي أعدها للتلفزيون المرحوم يوسف العاني، لكنها لم تقدم.
شغل عزيز عبد الصاحب في أواخر عمله مديراً للفرقة القومية ثم استقال من هذا الموقع المهم لتوقف الصرف على الإنتاج بسبب حجة الحصار ، فهو لكونه من جيل خرج من رحم المسرح يرى واقع المسرح العراقي أنه رهين الامان والاستقرار، فالعائلة العراقية كانت عندما تريد أن تسهر تذهب الى المسرح، فالمسرح متعة وثقافة للعائلة وحين يغيب الآمان ( كما كان حاصلا في بداية التغيير ) يغيب المسرح ويتضاءل دوره ، ولكن مع ذلك مهرجان بغداد المسرحي الاول والثاني وحتى الاخير الخامس كان محاولة جادة لتحدي الواقع وفيه قدمت أعمال شبابية تبشر بالخير ، هناك محاولات تشبثية وجادة تُثبت أن الفنان العراقي حي وفاعل وهو لن ينسى تأريخه ومعاناته، و أهم ما في هذه المرحلة أنه ليس هناك شرطي يعترض على إجازة النص أو يقوم بتأويله.لكن تبقى انسانيته وعواطفه النبيلة لزملائه مثار اهتمام، فبعد ان علم بأن صديقه الممثل الراحل فلاح البياتي، يرقد في مستشفى مدينة الطب في بغداد، لمرضه قرر زيارته، هناك أخبروه الأطباء بأن مصاب بالسرطان، وأن أيامه معدودة، حينها مباشرة لمعت في ذهنه فكرة، فقال لفلاح إنني اخترته لأداء دور الملك في مسرحيتي الجديدة، فرفض فلاح هذا الاقتراح، متحججاً بصعوبة حالته الصحية.. هنا أصر على ذلك، واقترح على فلاح أن يمرنه على النص في شرفة الغرفة داخل المستشفى، وبالفعل بدأت البروفات الثنائية يومياً، وكانت أصواتهم وهم يرددون مقاطع المسرحية، تطغى على المكان، فتوقعا أن تفزع الطيور، التي كانت تحط على سياج الشرفة، لكن الغريب في الأمر أن الطيور لم تهرب، بل كان عددها يزداد كل يوم، وكأنها تريد أن تسمع وتتابع، تلك البروفات الدائرة بيننا..اِستغرب الاطباء جداً ما قام به الفنان عزيز، وأكبروا بهذا العمل الإنساني العظيم، وقدَّرته تماماً، خصوصاً وانه استأذن الأطباء بأن يخرج صديقه، الممثل المريض إلى مسرح الرشيد، ليكمل بروفاته مع بقية طاقم العمل، فوافق الأطباء، كون الفنان يعيش آخر أيامه في الحياة، ومن هنا تكرر مجيء وذهاب فلاح البياتي إلى البروفات، ومن ثم يقوم إعادته إلى غرفته في المستشفى.بعد أيام عديدة، قام الأطباء المتابعون لحالة البياتي بإخبار عزيز عبد الصاحب بأنهم استغربوا جداً من تحسن حالته الصحية، وأنه بدأ يستجيب للعلاج بشكل كبير، وأخذت أوردته بالتفتح، وامتلأت عروقه بالدم، في حين كانوا قبل ذلك لا يستطيعون إيجاد وريد مناسب، لإمرار أي محلول في جسمه.يومها كان فلاح فرحاً، وهو يستعيد صحته، وعافيته، وحيويته، ويعيد صعوده على خشبة المسرح، مشاركاً مع طاقم العمل نجاح مسرحية العقد، ذلك العقد الفريد من المحبة.