في مشهد أسطوري رآه العالم، وبسترة الحرب وسلاح خفيف تم اغتيال بطل المقاومة بالأراضي الفلسطينية المحتلة، يحيى السنوار، وكان المشهد في الواقع أكثر براعة مما لو تم تصوير نظير سينمائي له، فالرجل الذي قال عنه الاحتلال بلسان مجرم الحرب رئيس وزراء الكيان إنه يمثل الخطر الأكبر بين قادة حركة المقاومة “حماس”، وإنه مهندس يوم السابع من أكتوبر ومطلوب حيا أو ميتا، لم يكن هاربا أو حاول الهرب، كما روج البعض، وإنما ظل مقاوما حتى أنفاسه الأخيرة، التي استدعى رمقها الأخير وهو يلقي بعصا كان يمسكها بيده، باتجاه طائرة مسيرة تحوم حوله، مدركا رمزية هذه المحاولة وهو جالس منفردا فوق مقعد قديم أو كنبة مرتديا الكوفية الفلسطينية، داخل بناية كان يحتمي بها مع رفاقه، بينما الخوف المسيطر دفع بقوات المحتل إلى قصف المبنى الذي يحتمي به أفراد بالدبابات.
وكما اتضح للمتابعين في العالم أجمع غباء المحتل الذي أراد أن يسطر بطولة لجيشه بتمكنه من قنص السنوار، غير أنه سطر بطولة تاريخية للسنوار، وأزال أي شبهة حاول إلصاقها بالمقاومة حين وصفها بأنها تغامر بالمدنيين الأبرياء لحماية نفسها أو الهروب بعيدا عن دائرة الحرب، لكن المشهد الذي كان مهيبا مهابة “المسافة صفر”، قد رسخ لدى الرأي العام العالمي سقوط القناع الإسرائيلي ومروياته، في جولة جديدة ونوعية ومغايرة من جولات فقد أسهمه، فخرج نشطاء من الغرب في تسجيلات مصورة يسجلون شهاداتهم حيال توالي سقوط الأقنعة عن الكيان المحتل، حتى أن إعلام الاحتلال نفسه تساءل إذا ما كان مشهد “قتل” السنوار صورة تاريخية أم خطأ إعلامي، هل يقدم صورة عن جيش المحتل بالقتال المستمر أم تعزيز للرواية الفلسطينية بأن قتال القائد العام لكتائب عز الدين القسام محمد ضيف من أجل الحرية، وهو الإعلام نفسه الذي أكد علمه بالتجربة بأن هناك تسلسلا قياديا لدى المقاومة، وإن “مات” كثيرون، فكثيرون أيضا سيظهرون، ووراءهم من يتولى مواقعهم ولا يعتقدون أن هناك انهيارا داخل حماس، بل ربما العكس ما سيحدث، إذ أن اغتيال حسن نصر الله في الجانب الآخر من المقاومة، لم يغير شيئا في لبنان، من استمرار هجوم حزب الله واستهدافه مناطق حيوية ومعسكرات في صفوف الاحتلال وتكبيده خسائر كبيرة قياسا لفارق القدرات، والسؤال: في حال وجود عملية عسكرية مستمرة، فما مآلها وما المحطات التالية لاستمرار الحرب.
المشهد نفسه دفع بالسؤال حول إمكانية تغير الواقع بعد اغتيال السنوار، الذي جاء في طريق سلسلة اغتيالات قيادات سياسية، وقد سبقه إسماعيل هنية فى طهران، والعاروري في لبنان، والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وعدد من قيادات الحزب، وأخيرا يحيى السنوار، الذي وصلوا إليه دون تخطيط مسبق، على الرغم من أنه كان على مدار شهور طويلة هدفا لنتنياهو، فهل غيابه يمثل خطوة باتجاه تغير نوعي في معادلة الحرب المختلة؟
والسؤال الأكثر إلحاحا بالتالي: متى يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النيران، وبمعنى آخر أكثر رحابة متى تتوقف الإبادة والحرب؟ لتكون الإجابة المتوقعة لدى نتنياهو الذي أكد بعد هذا نشر خبر الاغتيال أن الحرب مستمرة في غزة ولا توقف، وبالفعل زادت وتيرة استهداف المدنيين العزل في غزة التي ارتفع شهداء الحرب فيها وفي الضفة إلى نحو اثنين وأربعين شهيدا ومئة ألف مصاب، وقد شهدت الأيام التالية فقط ارتكاب المحتل لمجازر متتالية في القطاع المنكوب، وقد وصل منها للمستشفيات أكثر من ستين شهيدا وثلاثمائة إصابة في أربع وعشرين ساعة، مع استمرار النزوح الجماعي والمأساوي لأهالي غزة بعد إطالة أمد حرب الإبادة لأكثر من عام، وصولا إلى الغارات على خيام النازحين التي تسببت في اندلاع حريق كبير طال نحو ثلاثين خيمة، حيث يعيش النازحون، وتواصلت عمليات التهجير والإبادة، حتى أن القيادي في حماس سامي أبو زهري وجه نداءه للمجتمع الدولي الذي رآه في اختبار أمام ما يجري في شمال غزة، وأن الاحتلال يعمل على تهجير السكان من جباليا، ولم يكن للحرب والإبادة أن تستمر لولا امتداد الضوء الأميركي والغربي الأخضر إلى أبعد مدى، بل ربما الإمعان في التحفيز والتشجيع والدعم لمواصلة الحرب والتهجير وممارسة المجازر والإبادة وتوسع الاستيطان، والدفع بالمنطقة دفعا إلى حرب أشمل مع استمرار الغارات على الجنوب اللبناني والتوتر في البحر الأحمر وباب المندب.
وقد رحب بايدن صراحة باغتيال السنوار، واصفا إياه بأنه يوم جيد لإسرائيل وأميركا، وكذلك رحبت أنالينا بيربوك وزير الخارجية الألمانية التي وصفت السنوار بـ”القاتل الوحشي”، وطالبت الحركة الفلسطينية بالإفراج عن جميع الأسرى وإلقاء أسلحتها، وقال الرئيس الفرنسي ماكرون عبر “إكس” إن السنوار المسؤول الأول عن هجمات “السابع من أكتوبر”، وأنه يفكر بعاطفة بالضحايا، الذين بينهم 48 من فرنسا، التي تطالب بتحرير كل الأسرى الذين تحتجزهم حماس، واعتبرت جورجيا ميلوني رئيس وزراء إيطاليا أن مقتل السنوار يدشن مرحلة جديدة في الشرق الأوسط، بينما طالب رئيس الوزراء البريطاني بألا يحزن أحد على وفاة زعيم حماس، لأن على يديه دماء الإسرائيليين الذين قتلوا في السابع من أكتوبر، لنلحظ هذا الإجماع الغربي المتزامن على التشفي في اغتيال السنوار، وذكر أحداث أكتوبر دون التطرق إلى عشرات الآلاف من شهداء الحرب القذرة على قطاع أعزل ومنكوب، أو ذكر نزوح الملايين من اللبنانيين عن أراضيهم جراء الغارات المكثفة من قبل الاحتلال على وطنهم، لتكون الصورة الأوضح والمشهد الأكبر والشاشة التي لا يزال العرض فيها مستمرا هو الضلوع الغربي، ونية الغرب في شيطنة المنطقة والوصول بها إلى حافة الهاوية من خلال وكيله وصنيعته ومعسكره وذراعه الخبيث في الشرق.
نقلا عن “الاهرام”