تواترت مؤخّرا تصريحات المسؤولين الاسرائيليين التي يُنكرون فيها حقّ الفلسطينيين في دولة قابلة للحياة ويعتبرون ما يسمونها بيهودا والسامرة ( الضفة الغربية وقطاع غزّة ) أرضا مقدسة ولا تخضع للاعتبارات السياسية ولا يمكن بحال التفويت في أيّ شبر منها ، والجدير بالتذكير أنّ الكلّ في دولة الاحتلال يعتقد في هذا ، وهو ما يفسّر استمرار سياسة الاستيطان والعدوان المتواصل من أجل دفع الفلسطينيين الى القبول بأوطان بديلة أو بالاندماج النهائي في دول أخرى .
ويمثّل قبول كيان الاحتلال بالسلام استثناء تكتيكيا وعلى سبيل المناورة في أغلب الأوقات وتلجأ إليه الدولة الصهيونية رضوخا لموازين القوى الدولية وعلى الأرض في لحظة ما .
وإنّ سلام المناورات مع المحيط العدائي الذي تعتبره دولة الاحتلال محطّة ضرورة نحو تغييب وتصفية القضية الفلسطينية ، وذلك بالتوازي مع السياسات الميدانية في الداخل الفلسطيني وفي الضفة والقطاع والسعي المحموم للترحيل القسري للفلسطينيين ورفض الاعتراف بحقوقهم التي تضمنها قرارات الشرعية الدولية،كلّ ذلك يمثّل الأساس في سياسة الكيان الاسرائيلي .
فدولة الاحتلال ، تعي أوّلا وتماما أنّ الوقت لا يخدم أهدافها على المدى الطويل وهو ما يحتّم عليها اللجوء الممنهج إلى سياسة فرض الأمر الواقع في كلّ مرّة ، وهي تعي ثانيا هشاشة استقرارها المجتمعي نظرا لفقدان “شعبها” المقومات السوسيولوجية والتاريخية لبناء شعب لدولة يمكن أن تدوم ، وهي لذلك مصرّة استراتيجيا على إدامة وجود المحيط الإقليمي “العدائي” ، وثالثا فإنّ دولة الاحتلال مدركة لخطورة اختلال التوازن الديمغرافي الذي لا يخدم مصالحتها على المدى المتوسط والبعيد وهي لذلك تسعى الى التهجير القسري للفلسطينيين من كلّ فلسطين من خلال القضاء على كلّ مقوّمات الحياة في غزّة بما في ذلك ضرب كلّ المؤسسات المدنية ، وهي تسعى أيضًا بالتوازي إلى تكثيف النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية والعمل على “تنقية” المجتمع الاسرائيلي من فلسطينيي الداخل (أراضي 1948) وهي لذلك رافضة بالمطلق لحقّ عودة اللاجئين الذي يضمنه قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم 194 وقامت بترحيله في إتفاقيات السلام المبرمة مع منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1993 إلى قضايا “الوضع النهائي” وهي إلى جانب كلّ ذلك رافضة بالمطلق الحديث عن وجود الدولة الفلسطينية ولا تعترف سوى ب”سلطة فلسطينية” تفصّلها حسب مقاسها وبصلاحيات محدودة تنحصر أساسا في التنسيق الأمني المؤقّت من أجل ضمان أمنها في انتظار تغيير حاسم لموازين القوى على الأرض يمكّنها من التصفية النهائية لقضية فلسطين.
ولم تكن دولة إسرائيل الاستيطانية لتمكّن هذه السلطة الفلسطينية من صلاحيات فعلية حتى لا تكون جنين فعلي لدولة فلسطينية مستقبلية مستقلّة وقابلة للحياة ، وهي لذلك سعت دوما إلى الإمعان في إضعاف هذه السلطة الفلسطينية والتنكيل بها ومحاولة إجبارها على القبول بحلول وقتية ومذلّة لأنّ جوهر رؤيتها الإستراتيجية هو نسف أسس وجود دولة فلسطينية مستقبلية ،
وبالتوازي عملت دولة الاحتلال على ايجاد وتقوية أطراف فلسطينية بديلة ذات طابع عقائدي تلتقي معها موضوعيا وتسعى هي الأخرى إلى بناء دولة فلسطينية من النهر إلى البحر وذلك وفق رؤية يطغى عليها خطاب المقدّس أكثر من الخطاب الوطني،
وإسرائيل واعية تماما أنّ رؤية هذه الأطراف ستصطدم ، أوّلا بأمر واقع ميداني تعتقد أنّها تتحكّم فيه بالكامل وبموازين قوى دولية مختلّة تماما لفائدتها ، ودولة الاحتلال مدركة تماما الأهمّية الإستراتيجية لخلق عدوّ يبني مشروعه على “المقدّس” وينأى بنفسه عن المشروع الوطني السياسي الجامع ، ولأنّ هذه السياسة تحمل في طياتها بذور التناقض التناحري الذي يؤدّي في الغالب إلى زوال أطرافه ، إنقلب ما أرادته إسرائيل حلّا إلى وبالا عليها ، كانت نتيجته عملية “طوفان الأقصى” وما ترتّب عنها من ردود فعل وحشية زلزل أركان استقرارها وفتح مجالا كبيرا لتغيير جذري في تعاطي المجتمع الدولي مع قضية فلسطينية خالتها أطراف عدّة أنّها أصبحت من الماضي .
أحد المفكرين الكبار شدّد على أنّ الحلول في إطار المحافظة على السلطة تكون على المدى المتوسط والبعيد قَبْرًا لها لأنّ هذه الحلول تكون نتائجها عكسية تماما وهو ما يحدث الآن في غزّة .
ويقيني أنّ التطرف لن يكسب بالمطلق الحرب حتّى وإن حقّق “نجاحات” وكذلك سياسة فرض الأمر الواقع ، وكلّ هذه المعارك وكلّ هذا العدوان لن تربح منه إستراتيجيا هذه الأطراف ، ويجدر القول أنّه عندما تتنازع وتصطدم الرؤى المتطرفة والاطلاقية ببعضها يبقى اللجوء إلى القاعدة القانونية هو الحلّ ، والشرعية الدولية يمكن أن تكون المخرج المهمّ لنيل الحقوق الوقتية ولضمان الحقوق التاريخية .
إنّ معاناة الشعوب والكلفة الباهضة التي تتكبّدها نتيجة حروب تُفرض عليها ويُخشى منها أنّها تنتهي في الغالب بالتصالح بين المتنازعين ، تكون مقبولة شريطة مساهمة هذه المعاناة في بناء أجيال صمود وطنية قادرة على فرض الحقّ واسترجاع الحقوق المشروعة والتاريخية لهذه الشعوب .
وإنّ الحرب في غزّة والحرب ضدّ المستوطنات وكلّ النضالات التي يخوضها الفلسطينيون تصبّ في هذا الاتجاه متى خيضت بوعي بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وإنّ بناء أجيال الصمود هو مسار ضروري من أجل الوصول الى الحقوق التاريخية، وهي قاعدة لجأت اليها كلّ الشعوب والمجتمعات لنيل ما تعتبره حقوقها المشروعة وهذا هو كنه ومعنى أنّ إرادة الشعوب لا تُقهر .