كرم الصباغ
تخطر في فستانها الوردي؛ فتضحك الشمس لشمس أخرى، ظهرت للتو في وجه البنت، الذي أشع منه الضوء، بينما راح شعرها الأسود الناعم يعلن عن وجوده بنشر العبير في أرجاء المكان. ثمة فناء واسع، يقع مباشرة أمام البيت المبني بالحجارة العتيقة، التي احتفظت بصلابتها رغم مرور السنين.. للفناء سور عال مدهون بطلاء أبيض، تصطف بمحاذاته أشجار الرمان، وترخي ظلالها على الأرض المكتسية بالعشب. مريم تتوجه إلى رقعة الظل، و تجثو على ركبتيها، و دميتها أبدا لم تفارق يديها؛ فقد كانت، و لا تزال رفيقتها المثلى، وأنيستها؛ إذ لم يكن في الجوار بنات في مثل عمرها يشاركنها اللعب. و لما كانت « مريم» من ناحية أخرى وحيدة أبويها، اكتفت بالإفضاء إلى دميتها بمسراتها و أحزانها، و حكاياتها، التي لا تنضب، و تمنت أن لو شاركتها دميتها عاداتها اليومية، خاصة مداومتها على تفريط حبات الرمان، واحتساء شرابه المعقود بالسكر.
كان من عادات مريم أيضا أن تتطلع إلى أعالي الأشجار، وأن تراقب أنواع الطيور المختلفة، التي تحط على الأغصان؛ فتسارع بذكر أسماء الطيور، الواحد، تلو الآخر، كأنها معلمة تعلم تلميذتها الدمية الأسماء.. المعلمة صغيرة لم تبلغ بعد السادسة من عمرها، إلا أن ذلك لم يمنعها من تمثيل دورها بطلاقة، و الدمية هي الأخرى بارعة تجيد الإصغاء، و الطيور على ما يبدو قد راقها الدرس اليومي؛ فراحت تحط بانتظام على الأغصان، لكنها سرعان ما تعاود التحليق؛ فتشيعها «مريم» بعينين مبهورتين، حتى تختفي، و تذوب تماما في زرقة السماء الشاسعة. و بينما هي كذلك، إذ خطرت لها فكرة، ماذا لو جربت أن تطير طائرتها الورقية للمرة الأولى؟! تلك الطائرة، التي صنعها أبوها خصيصا لها كهدية عيد ميلاد، رغم انشغاله طوال اليوم بالعناية بحقله، حقل الزعتر، أو كما يطلق عليه أهالي الضيعة «الذهب الأخضر»، ذلك المحصول، الذي تراه زاهيا في سائر الحقول الممتدة على مرمى البصر بطول الضيعة، و عرضها.
« مريم» تشد الخيط؛ فترتفع الطائرة شيئا فشيئا، و تراقص تيارات الريح؛ فتتماوج، و تعانق الضحكات الرنانة الصاعدة إليها من قلب البنت، التي لم تشعر بمرور الوقت، و التي انتبهت، فجأة على صوت أزيز هادر، سبق ظهور طائرة مروحية، شقت السماء، بغتة، و راحت تحلق بشكل دائري فوق الدور و الحقول. ولما كان الأطفال لا يغالبون فرحتهم عندما يرون طائرة حقيقية، تجوب الفضاء، راحت مريم تهتف بفرحة عارمة، فأفلتت الخيط من يدها، و انهمكت في التلويح بكلتا يديها للمروحية، و الطيار، الذي لمح البنت في حديقتها تركض يمينا، و يسارا، و تقفز إلى أعلى، و تطوح ذراعيها في الهواء بحماس؛ فارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة، ورفع يده بدوره، و ما إن هوى بها، حتى دوي انفجار هائل؛ فتصاعد الغبار عاليا، وحجب الرؤية لدقائق. و لما انقشعت السحب السوداء، كانت أشجار الرمان المحترقة قد اقتلعت من جذورها، و سقطت جثثا هامدة، داخل الحفرة الواسعة التي ظهرت للتو. و كان محصول الزعتر، قد فقد خضرته، و استحال لونه إلى لون أسود، يشبه لون الفحم، بينما تناثرت قطع الأثاث بين حطام البيوت، واختلطت الأشلاء، و الرؤوس، والأطراف بعضها ببعض، في حين التصقت بقايا
من لحم متفحم بركام الجدران.. وهناك في بقعة نفذ إليها الضوء على استحياء، كانت « مريم» تنام بلا حراك، بجوار دميتها المنتحبة. و قبل أن تغادر المروحية سماء الضيعة عاودت قصف الأنقاض؛ فدوى الصوت من جديد، بينما ظلت طائرة مريم الورقية تسبح في فضاء معتم، مثقل بالدخان.