بعض تجليات رؤية العالم vision du monde ... في المجموعة القصصية القصيرة جدا “أحلام مؤجلة” للقاصة رغداء العلي
ثقافية
أضيف بواسطة zawraa
الكاتب
المشاهدات 1621
تاريخ الإضافة 2018/03/24 - 5:23 PM
آخر تحديث 2025/12/07 - 9:39 AM
[caption id="attachment_156568" align="alignnone" width="300"]

بعض تجليات رؤية العالم vision du monde ... في المجموعة القصصية القصيرة جدا “أحلام مؤجلة” للقاصة رغداء العلي[/caption]
الزوراء/ خاص/ عبد المجيد بَطالي
لا مماحكة في أن القصة القصيرة جدا، هي ذلك المكوّن الأدبي الحديث، الذي يساير العصر ويتماشى مع الحداثة اليوم، بما ترفده من مستجدات على جميع المستويات، وعلى مختلف الأصعدة.. وذلك لتميزها كفن إبداعي سردي قصير جدا، على المستوى التركيبي... لكنه غزير المعاني على المستوى الدلالي...
ولتطل القاصة (رغدة العالي) من أعالي شرفات السرد القصصي القصير جدا، على الساحة الثقافية والأدبية بنصوص مجموعتها “ أحلام مؤجلة “ لترصد من خلال السّمة الدّالة للعنوان... مجموعة من القضايا والظواهر المجتمعية والنفسية والسلوكية... وقد اختارت القاصة على المستوى التركيبي للعنوان، (المركب الوصفي) تلميحا للمتلقي على أن لفظة (أحلام)... وهي جمع تكسير تنتمي إلى المعجم النفسي/ السيكولوجي باعتبارها تأملات خيالية أثناء اليقظة، تهدف إلى تحقيق رغبات غير مشبعة... أحلام لم تتحقق بعد... لذلك فهي (مؤجلة) ربما لأجل غير مسمّى... أو لأنه يستحيل تحقيقها في الواقع المعيش كما تتصوره الساردة في مخيلتها، أو كما تراه رأي العين فتنقله سردا ممتعا وهادفا في ذات الآن...
تطالعنا منذ البداية القصة الأولى “سغب” وهي تحمل بعدا إنسانيا ترجمته القاصة في رؤيتها للعالم من حولها (vision du monde) تصور للمتلقي بالحرف والكلمة، واقعا مريرا، لتقربه منه في خطاب سريدي تصويري بديع يجعل القارئ منبهرا أمام أحداث القصة... تَسِم القاصة (رغدة) عنوان نصها “سغب” بما يحيل للدلالة على فتح ملف اجتماعي قاسٍ جدا، يدل لغويا ومعجميا على نوع من المعاناة التي تشير إلى (الجوع مع التعب...) وهذا واضح جدا من خلال مضامين المتن القصصي (.. طول الحصار... غياب أصناف الطعام.. الحشائش.. الصقيع.. صراخ الطفل ممتنعا عن الأكل لما يتصوره من مصير بعد الأكل...).
وتمضي رؤية الساردة للعالم في انتقاء نصوصها لتنتقل بنا من مشهد حزين إلى آخر مخالفٍ تماما... في نص “ولادة” هذا العنوان اللافت لنظر المتلقي، والذي يحيل على الخروج والظهور والانبعاث من جديد... لكن المدهش هو أن الولادة التي جاءت في هذا النص حسب رؤية الساردة، هي ولادة مختلفة ومتميزة، إذ لم تكن تتعلق بولادة طبيعية أو قيصرية لجنين في رَحم أمه، بل هي ولادة من نوع آخر صادمة للمتلقي ومباغتة، وذات أبعاد وقيم عالية تُولَد في الإنسان بعد انجلاء الغشاوة، وفضح سلوكيات مشينة “حقد وضياع ودماء..” عبّرت عنها ب “ظلمات ثلاث” سيبددها الفجر، ليتعانق الإخوة... ويحتفي الوطن بوحدة أخوية جميلة...
“أحلام مؤجلة” خطاب سردي قصصي قصير جدا يحاول جاهدا، أن يلامس الإنساني والاجتماعي والنفسي... وغيره في متلقيه، ليحرك فيه مشاعره الغافية، ويوقظ فيه ما تبقى من أحاسيس إنسانية... كما في القصة “ذاكرة” لتصوّر لنا الساردة معاناة (رجل نازح لم يستطع شراء ملابس باهظة الثمن لأبنائه الثلاثة من متجر فاخر...) وفي النص “تباشير” حيث تسرد القاصة نصها بحنكة عالية، وهي تحكي عن بطلة صغيرة تمسّكت بحقيبتها المدرسية، تودع الحياة على إثر انفجار غادر... يعثر الطبيب على رسالة في يدها... تتركها لمن خلفها، مكتوب عليها (لا… لنْ يموتَ الياسمينُ.).
وهكذا جاءت عتبات نصوص هذه المجموعة مضيئة، تلقي بتجلياتها على إبراز مكامن المتن القصصي، بغية استجلاب محاورة المتلقي، والتقاسم معه للرسالة اللغوية، من أجل خلق تواصل واعٍ على المستوى الأفقي (مرسل ومرسل إليه ورسالة) وأيضا من أجل تحقيق لذة القراءة، على المستوى السردي تركيبيا ودلاليا منها...
حاولت الساردة (رغدة العالي) من خلال مجموعتها القصصية القصيرة جدا “أحلام مؤجلة” أن تعبّر عن قضايا المجتمع، وإشكالاته المختلفة والمتضاربة، ومشاكله المتفرعة في عدّة نصوص تحت عناوين لافتة ودالة، حازت على قفلات صادمة ومدهشة كما في نص “أحلام مؤجلة” التي عالجت من خلالها إشكالية البطل الذي رفض الاستعداد لمباراة كرة القدم مع أصدقائه الذين استنكروا رفضه فكانت المعاناة تظهر في أفعاله وتصرفاته (شرد بعيدا.. غصّ بكلماته..) لتأتي القفلة مجيبة عن التساؤل المحير لأصدقاء البطل (عربةُ الخضرواتِ الّتي تنتظرهُ بعدَ الانصرافِ منَ المدرسةِ تعرفُ الجوابَ.) وكما في القصص “تباين” و”صراع” و”حياة” وغمرات” و”ندم” و”تحليق”.. وغيرها من النصوص التي يضيق المجال هنا لتشريحها كاملة...
وقد نهجت الساردة (رغدة العالي) في مجموعتها هذه، التكثيف عوض الإسهاب، والاختزال بدل الاستفاضة رغم ما يعرفه هذا الجنس الأدبي (الميكرو – سردي)، من مغامرة إبداعية تتصف بالسهل الممتنع على مستوى الشكل/ السطح، وعلى مستوى الدلالة/ العمق في بنائه الفريد، الذي لا يهتم بتفاصيل الأحداث وجزئياتها، بل يعتمد على اللّمعة السريعة، والنهاية المباغتة، التي تخلق المفاجأة لدى المتلقي وتترك بالتالي أثرها البالغ قويا على النفس والفكر...
وبعد، فإني أهنئ القاصة (رغداء العلي) على مجموعتها القصصية هذه، متمنيا أن تشكل إضافة نوعية في مجال السرد العربي القصير جدا، بإضافتها إلى قائمة منشوراتها الورقية... وأن تساهم كذلك في إغناء المكتبة العربية في فن القصة القصيرة جدا.