رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
غــــواية الكتـابـــة


المشاهدات 1465
تاريخ الإضافة 2025/07/27 - 10:13 PM
آخر تحديث 2025/08/01 - 12:51 PM


 
غوايةُ الكتابة واحدةٌ من نتائج غير محسوبة لعصر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات. صار الهوسُ بالكتابة والنشر، بلا موهبة، ولا قراءة مكثفة، ولا تفكير صبور،كهوس تكديس الشهادات العليا بلا تكوينٍ علمي. إذ يورث الحضورُ في تطبيقات وسائل التواصل إدمانَ الشهرة، وينهل هذا الإدمان أحياناً ما نهله الوهم من إدمان الهيروئين أوهامًا وتهويمًا في الفراغ ، مثلما أفرغ قناعُ السلطة المفاجئة على أشخاص إدمانًا من نوعٍ آخر، فيسعى مَن عمل سنوات طويلة من حياته مسؤولًا في سلطة، أو تنظيمٍ سياسي، بدولة أو مدينة صغيرة أو كبيرة، إلى حضور آخر في ميدان الأدب والثقافة والفن في الهزيع الأخير من عمره، يجهل أو يتجاهل أن الإنتاج الفكري والأدبي والفني متعذر تماماً بلا تكوينٍ مستمر وتفكيرٍ متأمل وتراكمٍ طويل لقراءات تتواصل العمرَ كلِّه. وإن أثبتت فوضى لا صدفة فيها إمكان أن يجد المرء نفسه في مواقع متقدمة من العمل السياسي، بلا تأهيلٍ سياسي واجتماعي وثقافي وبلا تجارب وخبرات، فيصل إلى مراكز متقدّمة بسرعة خاطفة؛ لمجرد الانخراط بجماعات سباق الامتيازات. تبقى مثل هذه الخروقات عصيّةً ولا تجد لها موطئ قدم في ضفاف الأدب والثقافة. التكوين الفكري، دائماً، يفرض سياقاتٍ فردية، تحتاج بدورها إلى قراءاتٍ تتسع لعمر الإنسان كلِّه، وتفكيرٍ مزمن ومران يوميّ على الكتابة، مضافاً إلى سياحةٍ متواصلة في الثقافات والآداب والفنون والمعارف والعلوم، وشغفٍ بالكتاب وولعٍ لا ينطفئ بالمطالعة. لا تتراكم الثقافاتُ والآداب والفنون والمعارف والعلوم وتتفاعل إلا في رحلة العمر الممتدة ومحطاته المتنوعة، ولا تتخصب وتنضج إلا ببطءٍ وزمن مديد.
  موضةُ الرواية اليوم تستخفُ بمختلف أشكال الكتابة سواها، بعد أن تحولت إلى هوسٍ صاخب يثيرُ الغثيان. سألني شخصٌ ممن تقدم به العمرُ، لا شغف له بالقراءة، ولا علاقة له بالكتاب والمكتبات، أنه يريد أن يبدأ بكتابة رواية فماذا يفعل؟  
  قلت له: الكتابة الإبداعية لا تولد بقرار، أنا لستُ روائيًا ولا ناقدًا، ولم أجرؤ حتى اليوم على كتابة رواية. الرواية من أثمن أجناس الكتابة وأغناها وأصعبها احترافًا. ليست الروايةُ تكديسَ ألفاظ أو حكايات مبعثرة، الرواية تتطلب من الكاتب موهبةً ومهارة لن تكونا طيّعتين إلا بعد تراكمٍ معرفي وجمالي واسع وعميق، ومطالعاتٍ غزيرة لأعظم الروائيين العالمين والعرب، وتمارين شاقة على الكتابة تصل حدَّ الانهاك. تتناغم في فضاء الرواية أجناسٌ كتابية وفنون ومعارف متنوعة، ما يحتاج معها الروائي، مضافًا إلى الموهبة، ثقافةً موسوعية يلتقي فيها مختلفُ أنواع الثقافات والآداب والفنون والمعارف، وشغفًا مبكرًا بالمطالعات المتنوعة. ليس هناك نصٌّ يبدأ من لا شيء، النصُّ المكثّفُ نسيجٌ يحيلُ إلى ما يختزنه الكاتبُ من نصوص قرأها في مراحل متوالية من حياته. تتجلى براعةُ الكاتب في استلهام ما يمده به الخزّانُ المترسب من قراءاته في أعماقه، وقدرته على الابداع. 
 كاتب الرواية المبدع يحتاج مدةً طويلة من القراءة وزيارات ميدانية، والتشبع بمناخات أماكن وأزمنة أحداث روايته وأبطالها. بعض الكتّاب يمضي مدة طويلة في التحضير لعمله الروائي أحيانًا، ربما يتطلب التحضيرُ للرواية عدة سنوات. قرأت لأمبرتو إيكو أنه أمضى ثمان سنوات من أجل كتابة بندول فوكو، يقول: «في الفترة التي كنت أحضّر فيها لكتابة روايتي بندول فوكو، قضيت ليالي بأكملها أتجول في ردهات معهد الفنون والحرف في باريس، حيث تدور بعض أحداث القصة، إلى أن يغلق أبوابه. ومن أجل وصف تجوال كاسوبون ليلاً في باريس من المعهد إلى ساحة ليفوج، ثم إلى برج إيفل، قضيت ليالي كثيرة أتجول في المدينة بين الثانية والثالثة صباحاً، أهمس في مسجل مدوناً ملاحظاتي حول ما أرى، ولكي لا أخطئ في أسماء الأزقة والمدارات» . ويحتاج كاتب الرواية إلى اعتكاف طويل وعزلة وتفرغ بعيدًا عن الناس ومشاغل الحياة اليومية. يكتب الروائي الحائز على جائزة نوبل أورهان باموق: «لمدة ثلاثين عامًا كنت أقضي معدل عشر ساعات يوميًا وحدي في غرفة، أجلس إلى مكتبي. وإذا أحصيت فقط العمل الجيد الذي يمكن نشره، فإن معدل اليومي سيكون أقل كثيرًا من نصف صفحة. فمعظم ما أكتبه لا يرقى إلى ما أرى أنه المعيار القياسي للجودة في نظري... لكي أكتب جيدًا، لابد أولاً أن أشعر بالملل حتى الجنون، ولكي أشعر بالملل حتى الجنون، لا بد أن أدخل فى الحياة» .
 قوة الرواية تعكسها قدرتها على تصوير نشيج صوت الإنسان المعذَّب المكبوت للقراء، بلغة عذبة واضحة مقتصدة مكتفية بذاتها، ذلك الصوت الذي يتصاعد فيبلغ حد الصراخ المختنق بالأسى، مما اكتوت بمرارته هي، وما نكتوي فيه نحن، من تقاليد وأعراف متشددة، فرضها في مجتمعاتنا التعصب الموروث، ولبثت تتراكم وتترسب لعدة قرون، وترسبت داخل الإنسان بعقد نفسية،كان ضحاياها في مختلف العصور الطفولة والمرأة والرقيق وكل البؤساء المقهورين، ممن تعرضوا للتمييز والاضطهاد والتعسف والإقصاء، على أساس العرق واللون أو الدين أو الجنس. قوة الكتابة السردية في قدرتها على البوح بما نقوله في السر، وما لا نستطيع التعبير عنه بلساننا، وكشفها لمأساة الإنسان وغربته وقلقه الوجودي، وتشريحها لبنية الاستعباد وتعبيراته المتنوعة في التربية والتعليم والثقافة واللغة والقيم المجتمعية السائدة، وحضوره في السلطة والعائلة والمدرسة والمؤسسة والمجتمع.
الروائي الحاذق لا يقف عند القراءة والتخيّل، بل يجد نفسَه يتقمّص أدوارَ أبطال روايته ومواقفهم، ويتموضع في أماكنها وأزمنة حوادثها، وينصهر بوقائعها، يعيش الأحداثَ ويتماهى مع الشخصيات ويسكن الأماكنَ وتسكنه. لفرط شغف الروائي يقع في فضاء الحدث ويتلبّس به كأنه هو مَن عاشه، ويلبث فيه مادام يفكر ويتخيل ويكتب عمله، لا يستطيع أن ينفكّ عنه في اليقظة، وعادة ما يلاحقه في نومه وأحلامه وكوابيسه. لا يمكنه نسيانُ حضور شخصيات روايته، يتوحّد معها إلى حدٍّ تتغلّب مشاعرهم على مشاعره وينعكس صدى انفعالاتِهم ومواقفهم في انفعالاته ومواقفه، تقول الروائية جاكلين ويلسون: «أتحول إلى الشخصية الرئيسية في رواياتي، ونادرًا ما أدرك أن أصابعي تكتب على لوحة المفاتيح، بسبب إحساسي بكل مشاعر تلك الشخصية من عينيها... ولطالما ذهبت إلى النوم وأنا أفكر في شخصياتي، وعندما استيقظ أجد تلك الشخصيات في رأسي، فأكون على استعداد للكتابة مرةً أخرى» . لفرط اندكاكه بكلِّ شيء في روايته ربما يأخذ الروائي شيئًا من كلِّ شيءٍ فيها إلى المستقبل، ولعمق تقمّصه لكلِّ التفاصيل وما يقع فيها تكون شخصيتُه حالةَ الكتابة كأنها صورةُ رواياته ورواياتِه صورةُ شخصيته. يتحدث نجيب محفوظ عن كمال عبد الجواد بطل ثلاثيته فيقول: «الأزمة الفكرية الخاصة بكمال هي أزمتي... التطور العقلي لكمال أذكر انني مررت به خطوة خطوة» . 
  تفرض الكتابةُ على الذهن أن يفكر بعمق في كلّ كلمة، اللغة ليست أداةَ تواصل فقط،كلّ كلمة تستبطن، منذ نشأتها وعبر رحلتها الطويلة، معاني مستترة وأخرى مندثرة. تطويعُ لغة الكتابة أشدُّ امتحانات كلِّ كاتب، غالباً ما تظهرُ حذاقةُ الكاتب في القدرة على الاستمرار بتغذّية الذهن بكلماتٍ يسطعُ ألقُها ويرتسمُ معناها بذهن القارئ، وبراعته في حرصه على عدم استنفاد ما تختزنه ذاكرتُه من هذا النوع من الكلمات. لغة الكتابة الجيدة صافية، أفكارها واضحة، أسلوبها يتقن اقتصادَ الألفاظ، لا تغرقه كلماتٌ لا تقول شيئًا. تكتب الروائية إيزابيل الليندي: «أنا أصحح إلى حد الإنهاك، وفي النهاية أستسلم. الرواية دائمًا غير منتهية تمامًا، ودائمًا ما أفترض بأنها يمكن أن تكون أفضل، ولكنني أبذل قصارى جهدي... أن تستعبدك حكاية فهذا مرض. إنني أحملُ القصة في داخلي طوال اليوم، طوال الليل، في أحلامي، في جميع الأوقات. كلُّ شيء أراه، كل شيء يحدث، يشعرني بأن الكون يتحدث معي لأنني أوصل القصة... لا أزال خائفة من امتناع قدرتي عن الكتابة. الأمر أشبه بابتلاع الرمل، إنه مروّع» .
‏ يرى الروائي المبدعُ صورةَ العالم في أصغر الأشياء في عينه وأقصاها عنه، يرى كهلًا في طفل، يرى غابةً في شجرة، يرى جبلًا في صخرة، يرى شلالًا في قطرة، يمكن أن يرى في أصغر شيء كلَّ شيء. المبدعُ يتحسّس ما لا يتحسّسه غيرُه، وينفعل بما لا ينفعل به غيرُه، ويتألم بما لا يؤلم غيرَه، ويكتئب بما لا يكتئب به غيرُه، ويبتهج بما لا يبهج غيرُه.كأنه يرى جزئيات كلّ شيء وذراته بمجهرٍ يضيء التفاصيلَ الهامشية بما يعجز عن رؤيته غيرُه.كلُّ قصة مادة ثرية لتأليف رواية ترسم لنا شيئًا من تجليات أعماق النفس الإنسانية، وتكشف ملامحَ صورة الإنسان ومختلف أحواله وهواجسه وقلقه وتناقضاته، والعالَم الذي يعيش فيه. حياةُ كلّ إنسان قصةٌ بل سلسلةُ قصص لا تكرّرها حياةُ إنسان آخر.‏كلُّ شيء في هذا العالم قصة، الكتابُ قصة، القصيدةُ قصة، الكلمةُ قصة، البذرةُ قصة، النبتةُ قصة، الوردةُ قصة، الشجرةُ قصة.كلُّ علاقة لإنسان بإنسان، كلُّ حدث، كلُّ نجاح، كلُّ فشل،كلُّ حزن، كلُّ فرح، كلُّ شيء مهما كان قصة تتسم بفرادة. تحكي كلُّ قصةٍ تميّز هذا الكائن واختلاف أحواله ومواقفه وانفعالاته وأفعاله. يقول يونغ: «في بعض الأحيان تستطيع شجرةٌ إخبارك أكثر مما تستطيع الكتبُ إخبارك به» .
   تكتب سفيتلانا أليكسيفيتش الحائزة على جائزة نوبل سنة 2015: «اخترت نوعا تتكلم فيه الأصوات البشرية تلقائياً من غير وسيط... لا أسجل التاريخ المجرد والحقائق الجافة، أنا أكتب تاريخ المشاعر الإنسانية، ما يفكر به الناس، وما يسمعونه أو يبتكرونه خلال وقوع الأحداث، ما يؤمنون به أو ما لا يثقون به، ما يتوهمونه، والآمال والمخاوف التي يمرون بها... لقد استغرقت ثلاث أو أربع سنوات لكتابة كل واحد من كتبي. أنا أصادف وأسجل لقاءاتي مع ٥٠٠-٧٠٠ شخص في كل كتاب. التاريخ الذي أكتبه يضم عدة أجيال، يبدأ من ذكريات الناس الذين عاصروا ثورة ١٩١٧ ومروا بالحروب وبكولاك ستالين، ووصلوا إلى وقتنا الراهن سالمين. هذه هي حكاية الروح الروسية السوفييتية» . 
  لا يجد الكاتبُ نفسَه على حالة واحدة حين يكتب، ربما يكتب نصًا لحظة توهجٍ ما لن يعود قادرًا على كتابة ما يشبهه في لحظة آتية. الكاتبُ الحقيقي مبدع، الإبداع اختراقٌ للقوانين المتعارَفة للكتابة وخروجٌ على الطرق المرسومة من قبل، ومغادرةٌ للأساليب المملة. أحيانًا يعجب الكاتبَ نصٌّ، ينزلق قلمَه عندما يحاول تقليده، لا هو ارتقى إلى لغته، ولا استطاع أن ينتج نصَّه الخاص. أحيانًا يحاول أن يستأنف محاكاةَ نصِّه الذي أنتجه كما هو مرةً أخرى، فيجد قلمَه يعاند تكرارَ التجربة مهما حاول أن يكرهَه على ذلك. 
  النصُّ كائن حيّ ‏يختلف باختلاف مثابرة وموهبة ولغة وعصر وحالة مَن يكتبه. لو كان الكاتبُ يكرّرُ ما يكتبُه غيرُه ويطابقُه، لأصبحت الكتابةُ نسخةً واحدة، ‏ولما تمايز كاتبٌ عن كاتبٍ وإبداعٌ عن إبداع، ‏ولصار كلُّ الروائيين دوستويفسكي، وكلُّ الفلاسفة إيمانويل كانط، وكلُّ العرفاء النفّري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي، وكلُّ الأدباء العرب الجاحظ وطه حسين ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف.‏‏‏
 


تابعنا على
تصميم وتطوير