كان الصحفي الراحل صادق الازدي أول من أثار إهتمامي بقضية تمويل الدولة للصحافة العراقية
حينما كنا في سهرة حدثت صيف 1983 في حديقة منزله ببغداد، وحضرها معي المرحوم الدكتور خالد حبيب الراوي وحسن السعدي ، وسيرد لاحقاً تفاصيل ما ذكره الأزدي.
الدكتور مليح صالح شكر
ترددت على صفحات الصحف في تاريخ العراق لعدة مرات إتهامات متفرقة بتلقي هذه الصحيفة أو تلك، أو هذا الصحفي أو ذاك ، داخل العراق وخارجه معونات مالية أو هدايا مالية.. بدأت هذه الظاهرة بالإنتشار خلال عهدي رئيس الوزراء ياسين الهاشمي 1935-1936 وبعدها مباشرة حكومة الانقلاب العسكري الأول 1936-1937.
وليس هدف هذه الملاحظات نفي وجود التمويل الحكومي، بل الهدف هو إلقاء الضوء على هذه الظاهرة التي طفت مبكراً على السطح وليس محتملاً أن تتوقف في المستقبل ، بل إزدادت تغولاً وارتفعت مبالغها ودخل العامل الاجنبي طرفاً لتمويل صحف عراقية بعد أن كان العراق هو الممول لصحف خارج العراق.
بلا شك مارست هذه الظاهرة جميع أنظمة الحكم التي حكمت العراق في العهد الملكي والعهد الجمهوري ومرحلتي ما قبل الاحتلال الامريكي 2003 وبعده.
بدأ الحديث عن التمويل الحكومي للصحف عقب الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة ياسين الهاشمي في تشرين الثاني 1936 ، حين اتهمت جريدة الحارس لصاحبها مكي الجميل في عددها الثالث الصادر في 14 تشرين الثاني 1936 حكومة الهاشمي السابقة بالتفرقة بين الجرائد إلى درجتين وخصصت لأصحاب الدرجة الأولى مخصصات شهرية قدرها 30 ديناراً ولأصحاب الدرجة الثانية 15 ديناراً . لكن التمويل الحكومي في عهد حكومة الهاشمي لم يكن الأول بل سبقه تمويل كانت تسمى المخصصات الحكومية ، وستبقى طويلاً، وهو اجراء حكومي تقليدي لشراء ولاء الصحف والصحفيين ، ومارسته كل حكومة تولت مقاليد الأمور، بصرف النظر عن سياستها ومنهاجها ورجالها. ولابد من الإشارة إلى ان موضوع التمويل الحكومي للصحف بقي سراً من أسرار الحكومة، وفي الوقت نفسه تعذر العثور على وثائق رسمية بهذا الخصوص، وتجنب الكثير ممن تحدثت معهم من رجال الصحافة والسياسة والحكومة وفي فترات متعددة الحديث في مثل هذه الأمور.
وكانت الحكومات تسعى لكسب ولاء الصحف بعدة اشتراكات للجريدة ، او كما كانت السفارتان البريطانية والامريكية في تنظيم زيارات لأصحاب بعض الصحف أو الصحفيين لبريطانيا والولايات المتحدة ولعدة شهور ولم يخجل البعض من تسلم مقالات جاهزة لتلميع صورة الاحتلال البريطاني في العراق مقابل بضعة دولارات، كما هو الحال مع ما قامت به القوات الأمريكية المحتلة للعراق في القرن الحادي والعشرين، باعتراف المصادر الرسمية الامريكية.
وركنت حكومة الانقلاب ذاتها عام 1936-1937 لاستخدام المخصصات المالية في علاقتها مع الصحافة. ويقول المؤرخ عبد الرزاق الحسني في الصفحة رقم 237 من الجزء الثاني لموسوعته تاريخ الوزارات العراقية إن حكومة بكر صديق- حكمت سليمان أغدقت المال على الصحفيين العرب الذين استضافتهم بوساطة رفائيل بطي وبعدها عادوا ( إلى بلدانهم وجيوبهم مثقلة بالدنانير وأقلامهم مهيأة لكتابة ما فيه تمجيد للوزارة).
بل أن جريدة الاستقلال البغدادية نشرت في الاول من تشرين الأول 1937ما سبق أن نشرته جريدة الاستقلال العربي الدمشقية في 23 أيلول 1937 من ان الحكومة الانقلابية في بغداد صرفت آلاف الدنانير على صحف تصدر في مصر وسوريا وفلسطين وصلت في أحد الاوقات إلى 20 ألف دينار كان نصيب جريدة مصرية 3 آلاف دينار.
وأكد حسين جميل في أحد لقاءاتي معه ببغداد منذ سنوات طويلة انه لم يصرف بصفته مدير الدعاية والنشر العام للانقلاب أي مساعدات مالية للصحف، بالرغم ان من قبله من المدراء ومن بعده كانوا يسيرون على هذا المنوال.. وكان حسين جميل قد تولى مكتب الدعاية والنشر بإرادة ملكية بعد أيام قليلة من الانقلاب العسكري ، لكنه استقال في نيسان 1937 ، وفي الحالتين، تسلم المكتب من إبراهيم حلمي العمر، وسلمه إياه بعد استقالته.
ويؤكد حسين جميل (أن بعض الصحفيين كانوا يتسلمون 30 ديناراً مساعدات شهرية)، ورفض -رحمه الله- الكشف لي عن أسماء هؤلاء الصحفيين).
ودائماً لدى الحكومة العراقية وسيلة اخرى غير التمويل المالي للضغط لاحتواء الصحف والصحفيين وهي الإعلانات الحكومية التي ترسلها للنشر في صحف وتحجبها عن صحف اخرى لتخسر رسوم النشر.
وتمتلئ الصحف العراقية في العهدين الملكي والجمهوري بالكثير من شكاوى أصحابها بأن وزارة الداخلية (مكتب المطبوعات)، أو وزارة الدفاع أو وزارة الإرشاد تفضل بعض الصحف على الصحف الأخرى في توزيع الإعلانات الرسمية.
وفي استعراض لصحف عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، نجد أن بعضها خصص صفحة كاملة من مجموع ست صفحات بالحجم الاعتيادي المألوف للصحف، لنشر الإعلانات الحكومية والتجارية والترويج للبضائع البريطانية ، وإعلانات المحاكم والدوائر الرسمية الأخرى ، وجميعها يوفر للجريدة موردا ماليا ثابتا ومضمونا، ولكن عليها أن تكون لينة في معارضتها للحكومة أو تسكت عن أخطائها.
ويمكن تفسير اهتمام جريدة البلاد بالإعلانات بأن صاحبها رفائيل بطي أدرك مبكراً فنون الصحافة والتمويل الذاتي من البيع الذي يشجع الإعلان ، وبأنه كان مطلعاً على فنون الإعلان من اتصالاته مع الصحف العربية في مصر وسوريا ولبنان. لكن الصحفي صادق الأزدي يخالف هذا الرأي، وينسب لجبران ملكون صاحب الأخبار قوله إن رفائيل بطي (كان أول من تسلم مخصصات سرية على شكل إعلانات).
وكان ملكون شريكاً لبطي في إصدار عدة صحف عراقية في اعوام 1929-1931، ومنها الأخبار التي انفرد ملكون فيها بينما انفرد بطي بجريدة البلاد، ما يعني ببساطة أن ملكون نفسه لم يكن بعيداً عن تلك المخصصات المالية السرية ، وسنرى لاحقاً ان الأخبار لم تكن أقل حظاً في تلقي الإعلانات، وكذلك الحال مع جريدة أخرى هي الزمان لصاحبها توفيق السمعاني.
وربما لأن عبد القادر السياب قد أصبح بعد الحرب العالمية الثانية عضواً في حزب الاستقلال فقد تفادى صديق شنشل كشف تفاصيل تمويل الصحف أيام الانتفاضة، وقال لي إنه كمدير دعاية رفض منح أي مخصصات مالية سرية للصحفيين، وأنه أبلغ رئيس الوزراء بذلك.
ويشير فائق بطي أيضاً إلى أن تلك الصحيفة قد صدرت بست صفحات بالرغم من غلاء ورق الصحف آنذاك دون أن يراجع صحف تلك الفترة، ومنها جريدة والده البلاد، وجريدة الاستقلال ليوم الاثنين 12 مايس 1941 ، ليجد أنها نشرت إعلاناً يقول (إن وزارة الاقتصاد قررت بيع مائة طن من الورق سعر البند 600 فلس بواسطة مديرية الدعاية العامة، فيرجى من الصحفيين مراجعة المديرية المذكورة للحصول على الورق المذكور).. فلو كانت الحكومة تنفق كما يقول فائق على بعض الصحف لكان الورق متوافرا لتلك الصحف فقط دون غيرها ، وهذا السعر لورق الصحف هو الذي استخدمه ايضاً ستيورات بيرون مدير العلاقات العامة في السفارة البريطانية لتوفير الورق لبعض الصحف بعد فشل الانتفاضة.
وقد أثرى أصحاب بعض الصحف من شراء الورق من السفارة البريطانية بهذا السعر ليبيعوه في السوق السوداء بسعر أعلى مما حصل مع صاحبي جريدته الأخبار والزمان، وقد واصلت حكومات ما بعد الحرب العالمية الثانية النهج نفسه حتى حكومة صالح جبر 1948 لكسب تأييد الصحف لمعاهدة بورتسموث مع بريطانيا.
فلبنان كان رئيس الوزراء وأعضاء وفده يقضي فترة استراحة في أسواق لندن بعد التوقيع على المعاهدة ، كان نائب رئيس الوزراء جمال بابان الموجود في بغداد يستدعي الصحفيين إلى مكتبه ويسلمهم كلا على انفراد مظروفات فيها مبالغ مالية، يقول صادق الأزدي إنه تسلم المظروف الموجود لصاحب الجريدة التي يعمل فيها وهو جبران ملكون ، وقال الأزدي لي إنه تبين ان المبلغ هو 75 ديناراً أخذها ملكون ولم يعطِ جزءاً منه للأزدي. وهذه الحقيقة التي أشرت إليها في مقدمة هذا المقال حين أثار الأزدي اهتمامي بتاريخ تمويل الدولة للصحف وللصحفيين.
ولم تنحسر ظاهرة التمويل الحكومي في السنوات اللاحقة واستخدمتها السلطات الرسمية خلال فرض الأحكام العرفية، وكانت الصحف تجد دائماً من تتهمه بتمويل صحف من دون صحف اخرى.
وقد تعرض رفائيل بطي بصفته وزير الدعاية في حكومة فاضل الجمالي عام1953-1954 لوابل من الاتهامات بالتصرف بأموال الدولة.. في البداية هاجمه صادق البصام في جريدته الحياد لتبديده أموال الدولة.
وفي تصريح لصادق الأزدي في مجلة ألف باء صيف 1983 قال إن بطي صرف آنذاك معونات لجريدتين صغيرتين، إحداهما جريدة الحقيقة بما في ذلك تكاليف طباعتها، وشرح لي شخصياً أنه كانت عام 1954 جريدة الصحافة، واطلع كما اطلع صحفيون آخرون على ما كانت وزارة الدعاية تصرفه من أموال من المخصصات السرية.. وبالتأكيد كانت كل الحكومات ملكية وجمهورية تحتفظ بالمخصصات السرية لصرفها على الصحفيين وكان تقليداً حكومياً معمولا به، ولم يتصرف بطي برغبة شخصية لكنه أصبح جزءاً من الحكومة ودفع المعونات المالية بصفته الوزارية وليس الصحفية.
وبعد ذلك شهدت مرحلة حلف بغداد ما بعد عام 1955 استخداماً كثيفاً للمخصصات المالية في الصحافة ، بعضها من مخصصات الحكومة العراقية التي يترأسها نوري السعيد ، وبعضها الآخر من مخصصات مؤسسات حلف بغداد التي كان بهجت العطية مدير الأمن العام يحتفظ بها بصفته رئيساً للجنة مكافحة النشاط الهدام.
وبعد قيام النظام الجمهوري في14 تموز عام 1958 وجهت المحكمة العسكرية الخاصة للزعيم محسن محمد علي مدير الدعاية العام، تهم تبديد الأموال العامة ومنها صرف مائة ألف دينار عراقي لشراء أجهزة تشويش على إذاعات صوت العرب والقاهرة ودمشق، واحتفاظه بمصروفات سرية قدرها 12 ألف دينار إضافةً لمصروفات لجان حلف بغداد.
وابتدعت حكومة نوري السعيد عام 1954-1955 بدعة لتمويل الصحف الموالية حين كانت أجهزة الأمن ترسل الى الصحف إعلانات سياسية من معارضيها المعتقلين من أعضاء الأحزاب السرية تحت عنوان صغير واحد هو (براءة) من الأحزاب التي ينتمون إليها وتنشرها الصحف الموالية مقابل اجور مالية.
ولم تختلف حكومات النظام الجمهوري عن سابقاتها في النظام الملكي في الهيمنة مالياً على الحياة الصحفية.. فقد استخدمت حكومة عبد الكريم قاسم 1958-1963 الإعلانات الحكومية وسيلة للضغط على الصحف، فباستثناء دفع رئيس الحكومة مبالغ متكررة لنقابة الصحفيين لبناء مقر لها، نجد ان أجهزة وزير داخليته الزعيم محمد أحمد يحيى كانت تدفع للصحف والأحزاب السياسية الهزيلة إضافة لما كانت أجهزة وزارة الدفاع تدفعه للصحفيين.
وقد كشفت محاكمة الزعيم محمد أحمد يحيى فيما بعد عن أن رئيس الحكومة السابق عبد الكريم قاسم دفع من المخصصات السرية خمسة آلاف دينار عراقي للشيوعي المنشق داود الصايغ لكي يصدر جريدة المبدأ، اضافة لما كانت وزارة الداخلية تدفعه له شهرياً بمبلغ مائة دينار!
وقد كانت بعض الصحف تشتكي من التفرقة في توزيع الإعلانات الحكومية، فنرى مثلا نقيب الصحفيين الشاعر محمد مهدي الجواهري اشتكى في مقال له في جريدته الرأي العام من أن وزارة الدفاع تمول صحفاً وتستثني أخرى ، وهو ما عبر عنه أيضاً خضر العباسي في جريدته بغداد، لكنه اتهم وزارة الإرشاد وليس الدفاع بحجب الإعلانات عن جريدته.
وفي وقت لاحق، قال لي الزعيم عبد الكريم فرحان في رسالة له من السويد بتاريخ 14 أيلول عام 1984 إنه لم يدفع عندما كان وزيراً للإرشاد المخصصات للصحف لكنه يعترف في رسالته أنه توسط لدى زميله وزير الداخلية الزعيم رشيد مصلح لدفع عشرين ألف دينار عراقي من مخصصاته السرية الى جريدة الثورة العربية لتشتري مطبعة لها .
وورثت سلطات حكومة عبد السلام عارف من حكومة نوري السعيد نشر إعلانات البراءة من الأحزاب السياسية وحظيت بها صحيفتا العرب والمنار .
وأصبحت الصحافة العراقية بعد الثالث من كانون الأول عام 1967 من أملاك الدولة بقانون تنظيم الصحافة وهو ما ورثه نظام البعث بعد عام 1968 لكن الممارسات لم تختلف كثيراً عن سابقاتها، إذ اصبح التمويل يسمى مكافآت حين يتلقى بعض الصحفيين هدايا من رئاسة الجمهورية بعضها شقق سكنية او سيارات أو أرض زراعية أو مبالغ نقدية سخية.
ومن أمثلة نكران الجميل أن بعض الصحفيين المعروفين في العراق كانوا، بالرغم من تلقيهم هدايا رئاسية سخية ومتكررة أكثر من غيرهم ، كانوا في مقدمة من هاجم وانتقد صدام حسين بعد الاحتلال الامريكي.
وكذلك لعبت مديرية الأمن العامة في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين دورها التقليدي في تمويل الصحفيين (المتعاونين) أو كما تمت تسميتهم لاحقا(المؤتمنين) هم أشخاص يتم الاتفاق على تقديمهم المعلومات للامن العام مقابل حصولهم على دعم الأجهزة الأمنية، وكان هذا الدعم ذا أبعاد مختلفة منها مرتبات شهرية تمنح لمن تتم الموافقة على منحه إياها، وهنالك باب مالي يحدد لهذا الأسماء المستفيدة وبعضها اسماء يتم ترميزها، وطبعا كان هنالك صحفيون.
وقد اشتهر تعاون بعض الشخصيات الأكاديمية والصحفية منذ تولي فاضل البراك منصب المدير العام للأمن العامة، زمن الأسماء المعروفة في الوسط الصحفي، وقد انقلبوا على النظام بعد الاحتلال.
وصرفت الدولة العراقية في عقد الثمانينيات مبالغ خرافية لعدد من الصحفيين العرب، ومولت صحفهم في العواصم الاوروبية. أما في السنوات الأولى لاحتلال العراق 2003، بل وقبلها، فقد أغدقت الدوائر الأمريكية على بعض العراقيين، ومنهم صحفيون، معونات مالية وعينية تولت صرف بعضها وكالة التنمية الدولية (الملغية مؤخراً) لتمويل صحفيين لإصدار صحف او إنشاء وكالات أنباء أو معدات محطة تلفزيون وبث تلفزيوني وأثاث مكاتب ورواتب، وفيما بعد باعوها، وعادوا الى خارج العراق مرة أخرى.