رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
عبد الجبار الملي... موهبة فنية بدأت من مرسم المدرسة إلى معارض العالم


المشاهدات 1388
تاريخ الإضافة 2025/07/13 - 10:41 PM
آخر تحديث 2025/07/30 - 5:56 PM

في قلب مدينة الحلة، وعلى ضفاف نهرها الأخضر، نشأ فنان تتفتق في داخله الموهبة منذ نعومة أظفاره، بين دفء البيئة الشعبية وتشجيع الأسرة والمعلمين، ليجد طريقه إلى الفن، لا بوصفه مهنة، بل قدرًا وجوديًّا. الفنان التشكيلي  عبد الجبار الملي ، أحد أبرز أبناء المدينة الذين صنعوا لأنفسهم هوية خاصة، تتأرجح بين التأمل والتجريب، بين الدهشة والانتماء، فتح لنا أبواب ذاكرته لنرصد معه محطات الرحلة، من مرسم المدرسة إلى معترك الحياة، ومن الانبهار بالسينما إلى مقاومة الحرب.
وللتعرف على مسيرته نضع بين أيديكم الحوار ميدانيا .
*  كيف كانت بدايتك مع الفن؟ وما الذي شكّل وعيك الجمالي في مرحلة الطفولة؟
ـــ إنه سؤال جميل عن علاقتي بالفن، والأشياء التي جذبتني إلى عالمه. حين أتأمل الحي الشعبي وناسنا البسطاء، أشعر بأن البيئة المكانية فجّرت لديّ التأمل والحلم من عالم المشاعر والوجدان. بيتنا كان على شط الحلة، ومدرستي وأهلي ساهموا كثيرًا في صناعة حلمي. كنت رسام المدرسة، ورسوماتي تطرّز جدران المرسم، وشاركت في معارض مدرسية، وحظيت بتشجيع من معلم الفنية. في الأعياد كنّا نذهب للسينما، وكنت أرسم إعلانات الأفلام التاريخية مثل «هرقل» وأبهر نفسي حين أجيد رسمها. وفي المتوسطة، كان لي الحظ أن أتعلم على يد أساتذة كبار مثل إبراهيم العبدلي وسلمان داود الخلف وعزيز الشكرجي، فوضعت نُصب عيني إنهاء الثالث المتوسط للالتحاق بمعهد الفنون الجميلة.
*  حدثنا عن أثر معهد الفنون الجميلة في مسيرتك الفنية؟
ـــ إنه سؤال مستفز لكائن عشق الفن ووجد ضالته في مؤسسة فنية عظيمة. معهد الفنون قدّم لي الرعاية والاحتضان، وكان فعلاً بيئة تعليمية مدهشة. كنت من طلاب المعهد في السبعينيات، وهي سنوات خصبة درَست فيها على يد نخبة من الرواد العراقيين. المعهد وقتها كان فضاءً مفتوحًا للفن، وملتقى للمواهب. هو بيئة غنية وصارمة التكوين، ويمكنني القول باختصار: كان معبدي الفني.
*  كيف أثرت دراستك وقراءتك الذاتية في تطور تجربتك؟
ـــ كان التطور طرديًّا بين الدراسة والتعلّم الذاتي. عشت في مناخ ثقافي خصب، نهلت من ينابيعه الكثير. التجربة كانت غنية في كل شيء: الزمن، والرفقة مع الشغوفين، والمكتبات التي وفّرت مصادر عن المدارس الفنية والفنانين العرب والعالميين. كل ذلك عزز تجربتي وفتح لي آفاقاً أوسع.
*  كيف كانت بدايتك المهنية في الفن؟ وهل عملت ضمن تخصصك؟
ـــ من محاسن الصدف أني عملت باختصاصي كرسام في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون. كنت محاطًا بفنانين كبار في قسم الديكور، استفدت منهم كثيرًا من حيث الخبرة والمعلومة. بدأت بتنفيذ أعمال كبيرة منحتني الثقة والخبرة. كانت تلك بدايتي الحقيقية، وأحد أهم المحطات التي أثّرت في مسيرتي وأضافت لي رصيدًا معرفيًا كبيرًا.
*  هل مررت بانقطاع قسري عن الفن؟ وما تأثير ذلك عليك؟
ـــ نعم، عانيت كثيرًا من انقطاع مؤلم. كنت في قمة العطاء بعد تخرجي من المعهد، لكن الحرب العراقية الإيرانية جاءت وحرقت كل الأحلام. انشغلت بالخدمة العسكرية، وغبت عن الفن لثماني سنوات كاملة. كانت خسارة كبيرة من عمري الفني، حيث أثّر الانقطاع سلبًا على تطور مشروعي، ومسح من ذاكرتي الكثير.
*  ما تأثير مدينة الحلة عليك كفنان؟ 
ـــ الحلة مدينة دافئة وعريقة، ثرية في عطائها الثقافي والفني. نشأتُ في وسط فني خصب، وشاركت منذ الصغر في نشاطات ومعارض، تأثرت بأساتذة ومبدعين كُثُر. الحلة ولادة دائماً، ولها تأثير كبير على تكويني الفني، فهي مدينة ساحرة، طبيعتها الاجتماعية والمناخية محفّزة للذائقة الجمالية.
*  هل لديك هواجس تجاه الوقت والعطاء الفني؟
ـــ سؤال محرج. أرتعب من فكرة مغادرة الدنيا دون أن أقدّم شيئًا. أشعر أن الزمن لا يكفي، رغم أن لديّ الكثير. أحاول اليوم أن أكون حاضرًا في كل معرض نوعي، وأُدرك أن العمر ليس بيدي، لكني أبذل كل جهدي.
*  هل تشعر أن هناك نهاية للتجربة الفنية؟ 
ـــ الفن لا ينتهي، بل هو مسار دائم من التجربة والتطور والنمو. إنه مرآة للمجتمع والإنسان، وهذه عناصر لا تتوقف عن التغير. لذلك فالفن أيضاً لا يتوقف. تجربتي الشخصية ما زالت في بدايتها، ولا تزال الرحلة قائمة، لأنني في حالة بحث دائم.
*  ما المدارس الفنية التي أثّرت فيك بدايةً؟ 
ـــ في بداياتي، جذبتني تجارب كثيرة لأساتذتي الكبار مثل فائق حسن، محمد علي شاكر، إبراهيم العبدلي، وشاكر حسن آل سعيد. كما تأثرت بفنانين أجانب مثل سيزان، فان كوخ، روبنز، وأوجين ديلاكروا. تلك التجارب العملاقة كانت مثار ذهول بالنسبة لي، وكان لها أثر كبير على مسيرتي حتى قبل أن أستقر في توجهي الأسلوبي الخاص.
*  كيف بلورت أسلوبك الفني الخاص؟ 
ـــ أدركت أن الأسلوب لا يأتي دون تعلّم وتمرين ومثابرة. نقلت الأعمال العالمية، درست ألوانها، ومزجها، ونسبها، وتدرّبت كثيرًا على تقنياتهم. كان هذا هو الأساس في التكوين، وصولًا إلى بلورة أسلوبي الشخصي في الرؤية والمعالجة الفنية.
*  هل يمكن أن تحدثنا عن المراحل أو التحولات التي مررت بها في مسيرتك الفنية؟
ـــ مررت بتحولات كثيرة، وهي ليست وليدة قرار بل نتيجة للبحث والتجربة الطويلة. كنت دائمًا أبحث عن خصوصيتي، عن اللغة التي تُشبهني، وكنت واعيًا أن ذلك لا يأتي دون المرور بمحطات متعددة من التعلّم والتجريب. فبعد أن نهلت من تجارب أساتذتي الكبار، ومن المدارس الفنية الكلاسيكية والحديثة، بدأت أرسم بحس شخصي. اشتغلت كثيرًا على تطوير أدواتي، وعلى بناء رؤية بصرية نابعة من بيئتي وتجربتي. اليوم أشعر أنني قطعت شوطًا لا بأس به، لكن ما زلت في الطريق.
*  ما مكانة البيئة والذاكرة العراقية في أعمالك؟ 
ـــ البيئة العراقية جزء لا يتجزأ من تكويني النفسي والفني. لا يمكن أن أرسم خارج سياق ذاكرتي، حتى وإن ذهبت إلى التجريد أو الرمز، فإن الجذور تبقى واضحة. البيت، النهر، الأزقة، الوجوه، الطقوس الشعبية، وحتى الحزن العراقي، كلها تتسلل إلى لوحاتي، بشكل مباشر أو ضمني. البيئة تشكّل النسيج الأولي الذي أبدأ منه، ثم تأتي المعالجة والرؤية.
*  ما رأيك بمشهد الفن التشكيلي العراقي اليوم؟ وهل ترى أن هناك تجديدًا؟ 
ـــ المشهد غني بالأسماء والتجارب، وهذا أمر مفرح. لكننا نواجه تحديات كبيرة في ما يخص الدعم المؤسسي، والنقد المتخصص، وسوق الفن. هناك مواهب كثيرة، لكن بدون بيئة حاضنة ومؤسسات داعمة سيظل الجهد فرديًا. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود تجارب ناضجة جدًا، وفنانين شباب يشتغلون بوعي وتقنية ممتازة. التجديد موجود، لكن يحتاج إلى سياقات تؤطره وتدفعه إلى الأمام.
*  هل تُشارك في المعارض خارج العراق؟ وما الفرق بين العرض المحلي والعربي أو العالمي؟ 
ـــ نعم، شاركت في العديد من المعارض العربية والدولية، وكانت تجارب ثرية بكل معنى الكلمة. العرض في الخارج يمنحك فرصة لرؤية ذاتك من زاوية مختلفة، كما أنه يعرض أعمالك لجمهور متنوع الثقافة والتذوق. الفرق الأساسي أن المعارض الخارجية تتمتع بتنظيم دقيق، واهتمام نقدي، وتسويق فني، في حين يفتقر كثير من المعارض المحلية إلى هذه العناصر. في الخارج، تشعر أن هناك مؤسسة تدعم الفن، وهنا نعتمد على الجهد الفردي.
*  ما الرسالة التي تريد أن تصل من خلال فنك؟ 
ـــ أؤمن أن الفن رسالة، لكنه أيضًا شهادة وجود. أريد أن أقول إن الإنسان العراقي، رغم الألم والحروب والانكسارات، ما زال يبدع، ويحلم، ويبحث عن الجمال. أرغب بأن تكون لوحاتي مرآة للوجدان العراقي، لا بمعناه المباشر، بل عبر التعبير الحر والعميق. أريد أن أصل إلى المتلقي من خلال الإحساس لا الخطابة.
*  هل هناك أعمال معيّنة تعتز بها أكثر من غيرها؟ ولماذا؟ 
ـــ نعم، هناك أعمال أعدّها محطات مفصلية في تجربتي، لأنها كانت نتيجة تحوّل داخلي أو لحظة وعي فني مختلفة. في إحدى المرات، أنجزت عملاً بعد فقدان عزيز، وكان لوحة غير مخطط لها لكنها خرجت من أعماقي. هذا النوع من الأعمال لا يُنسى، لأنها تختزن لحظة حقيقية وصادقة جدًا. أحيانًا أعود لأعمال قديمة وأستغرب من قدرتي على التعبير حينها، وهذا ما يجعل لكل لوحة مكانة خاصة في ذاكرتي.
*  ما رأيك في دور الإعلام والثقافة العراقية تجاه الفنانين التشكيليين؟ 
ـــ الإعلام الفني في العراق ضعيف مقارنة بأهمية وتنوع الفن التشكيلي لدينا. هناك فنانون كبار لا تُسلط عليهم الأضواء، وهناك معارض تمرّ دون تغطية. نحتاج إلى إعلام نوعي، ناقد، مختص، يواكب المشهد ويعطيه حقه. كما نحتاج إلى ثقافة بصرية في المجتمع، لأن الفن ليس ترفًا، بل ضرورة جمالية وثقافية وروحية.
*  هل من طموح لم يتحقق بعد؟ 
ـــ كثير من الطموحات لم تتحقق بعد، ربما لأن الفنان الحقيقي لا يتوقف عند نقطة. أحلم بأن يكون لي مشروع متحفي يوثق تجربتي وتاريخي، وأن أُسهم في تعليم وتدريب الأجيال الشابة في مشروع أكاديمي خاص. وأتمنى أن أرى الفن العراقي يأخذ مكانته الطبيعية عربيًا وعالميًا.
 *  ما نصيحتك للفنانين الشباب الذين يخطون خطواتهم الأولى؟ 
ـــ أوصيهم بالصبر، والمثابرة، وأن لا يستعجلوا الشهرة أو الاعتراف. الفن بحاجة إلى بناء، وثقافة، وتجريب طويل. عليهم أن يقرؤوا كثيرًا، ويرسموا أكثر، وأن لا يقلدوا بل يكتشفوا أنفسهم. أهم شيء أن يكونوا صادقين مع ذواتهم، لأن الفن الصادق وحده هو الذي يترك أثرًا.
أمنياتنا لكم  بالعمر المدير وبعطاء ثر .


تابعنا على
تصميم وتطوير