صادف وصولي إلى سراييفو قبل أيام من حلول الذكرى الثلاثين لمجزرة الإبادة الجماعية التي ارتكبها الجيش الصربي بحق الرجال والشبان المسلمين من سكان بلدة سربرنيتسا، يوم 11 تموز/ يوليو 1995. لذا لم أتردد في مطالبة الرحالة الصغير أيمن - مضيفي ورفيقي في هذه الرحلة - بأن يصطحبني في اليوم التالي بسيارته السوداء إلى سربرنيتسا، التي كانت في طليعة الأماكن التي خططتُ لزيارتها خلال وجودي في جمهورية البوسنة والهرسك. تقع سربرنيتسا على بعد نحو 160 كيلومتراً شرق العاصمة سراييفو، بالقرب من الحدود مع صربيا. الطريق يؤدي إلى هناك في اتجاه واحد، ويمر بتضاريس جبلية مليئة بالتواءات خطرة. ويستغرق عبوره ما لا يقل عن ثلاث ساعات. غير أن براعة أيمن في السياقة أوصلتنا إلى المدينة في أقل من ساعتين، لعلمه المسبق بمسالكه وحرصه على استثمار كل لحظة في هذه الرحلة القصيرة، حتى أتمكن من رؤية أكبر عدد ممكن من المدن البوسنية شرقها وغربها. كانت مقبرة بوتوتشاري، التي تضم ضحايا الإبادة، تقع على يمين الشارع المؤدي إلى مدخل مدينة سربرنيتسا. وسميت بذلك نسبة إلى قرية بوتوتشاري الصغيرة الواقعة على أطرافها، وقد اختير هذا الموقع لإنشاء المقبرة التذكارية لضحايا المذبحة، لأنه كان مقراً لقوات حفظ السلام الهولندية التابعة للأمم المتحدة خلال المجزرة، فقد لجأ إليه آلاف المدنيين البوسنيين طلباً للحماية. لكن تلك القوات لم تضطلع بواجبها كما يجب، وقامت بتسليم آلاف الرجال والصبيان إلى القوات الصربية، وتم فصلهم عن عائلاتهم ليُعدموا لاحقاً .
داخل المقبرة، التي تضم رفات 8372 من الضحايا، نُقشت على واجهاتها المرمرية أسماء الضحايا. بعضهم لم يتجاوز 13 عاماً أثناء وقوع المذبحة، وبعض المصادر تشير إلى أن الطفل عمر أوسمانوفيتش كان يبلغ 11 عاماً فقط، بينما تجاوز بعض الضحايا الثمانين عاماً. لكن الغالبية العظمى منهم تراوح أعمارهم بين 25 و 45 عاماً، حيث أُستهدف الشبان والرجال القادرون على القتال، ضمن سياسة تطهير لمجتمع المسلم المحلي على أيدي الصرب .
تعدُّ هذه المجزرة، التي وقعت في قلب أوروبا، كانت من أبشع الجرائم التي عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وقد صنّفتها المحاكم الدولية لاحقاً كإبادة جماعية. وكان الجنرال الصربي راتكو ملاديتش هو العقل المدبر والمنفذ العسكري لهذه الإبادة، فيما وقف العالم متفرجاً. هذا الجنرال هو نفسه الذي قاد الحصار الوحشي على سراييفو، الذي استمر اكثر من ثلاث سنوات وخلف آلاف القتلى من المدنيين، وحتى اليوم، عندما تتجول في العاصمة، تجد في كل زاوية حكاية من تلك السنوات المريرة، وعلى كثير من الأبنية ما زالت آثار القنابل والصواريخ، كما أن القناصة المنتشرين على الجبال المحيطة بالمدينة كانوا يصطادون المدنيين أثناء تنقلهم من مكان إلى آخر .
لكن ... لماذا وقعت مذبحة سربرنيتسا؟
في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وبعد تفكك يوغوسلافيا الاتحادية، غرقت منطقة البلقان في دوامة من الحروب العرقية والدمار. أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عام 1992، الأمر الذي رفضته القيادة السياسية والعسكرية لصرب البوسنة، المدعومين من صربيا بقيادة سلوبودان ميلوشيفيتش. وعلى اثر ذلك اندلع النزاع بين البوشناق « المسلمين البوسنيين « من جهة، والصرب والكروات من جهة أخرى، وشهدت البلاد حرباً ضروساً امتدت حتى عام 1995، تخللتها فظائع عدة، كان أفظعها بلا شك ما جرى في سربرنيتسا التي وصفت بالمنطقة الآمنة. منذ عام 1993 كانت سربرنيتسا تحت حصار قوات صرب البوسنة. وفي محاولة لحماية المدنيين، أعلنت الأمم المتحدة المدينة «منطقة آمنة»، ونشرت كتيبة صغيرة من قوات حفظ السلام الهولندية تأمينها. لكن هذه الحماية كانت اسمية أكثر منها فعلية، إذ لم يُسمح لقوات الأمم المتحدة باستخدام القوة الكافية، ولم يكن لديها العتاد أو الدعم اللازم لردع الهجوم المتوقع. وعندما اقتحمت قوات صرب البوسنة المدينة في 11 تموز/يوليو 1995، لم يكن هناك من يقف في وجهها. ومع دخولها المدينة بقيادة ملاديتش، بدأت الكارثة. انفصل الرجال والصبيان عن النساء والأطفال، بذريعة « نقلهم للاستجواب «. نُقلت النساء إلى مناطق أخرى بواسطة الحافلات، فيما اقتيد الذكور إلى مصيرهم المحتوم. وعلى مدى أيام، وبطريقة مروعة، قامت القوات الصربية بإعدام آلاف الضحايا رمياً بالرصاص، ودفنهم في مقابر جماعية متناثرة في الغابات والحقول المحيطة. ثم، ولطمس الأدلة، أعيد فتح بعض القبور ونُقلت الجثث إلى أماكن أخرى باستخدام الجرافات. وكانت تلك الإبادة منظمة بدقة مخيفة : نقل الضحايا، فرزهم، تصفيتهم، وتوزيع جثثهم عبر مواقع متعددة. حتى المقابر لم تسلم من العبث .
أين كانت الأمم المتحدة ؟
هذا من أكثر الأسئلة إلحاحاً في مأساة سربرنيتسا. فشلت قوات حفظ السلام الهولندية في حماية المدنيين رغم تواجدها على الأرض. وحتى بعد التهديدات، تأخرت الاستعانة بالقوة الجوية لحلف الناتو حتى فات الأوان. ويرى البعض أن تقاعس المجتمع الدولي، خاصة الأمم المتحدة، أسهم بشكل غير مباشر في وقوع المجزرة. وقد اعترفت الحكومة الهولندية بمسؤوليتها الأخلاقية عن فشل قواتها في منع المجزرة، ما أدى إلى استقالتها عام 2002 بعد تقرير مستقل حمّلها جزءاً من المسؤولية. لم تمر الجريمة دون عقاب، وإن بعد طول انتظار. ففي عام 2001، اعتبرت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة ما حدث في سربرنيتسا « إبادة جماعية «، وهي المرة الأولى في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية التي يستخدم فيها هذا التوصيف.
وفي عام 2017، حُكم على الجنرال راتكو ملاديتش بالسجن مدى الحياة، بعد إدانته بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. كما أُدين الزعيم السياسي لصرب البوسنة، رادوفان كاراديتش بالتهم نفسها. وشكلت هذه الأحكام انتصاراً جزئياً للعدالة، إلا أنها لم تمحِ الألم من نفوس عائلات الضحايا. وحتى اليوم، تُستأنف جهود التعرف على رفات الضحايا باستخدام تقنيات تحليل الحمض النووي لمطابقة العظام التي عُثر عليها في المقابر الجماعية مع أقاربهم. لكن الكثير من العائلات لم تتسلم بعد جثامين أحبائها، بل لم تُسترد سوى أجزاءٍ متفرقة من رفاتهم. ورغم مرور 30 عاماً، لا تزال الأمهات يحتفظن بصور أبنائهن المفقودين، يحدقن بها في انتظار العدالة الكاملة، إن لم تكن من المحاكم، فلتكن من ضمير العالم. وفي كل عام، وتحديداً في 11 تموز / يوليو، يُقام موكب جنائزي جماعي في مركز بوتوتشاري التذكاري قرب سربرنيتسا، حيث يُدفن المزيد من الرفات التي تُستخرج وتُعرف.
غزة.. حاضرة في ذكرى الإبادة الجماعية
كانت مجزرة سربرنيتسا، الإبادة الجماعية الأكبر في أوروبا والعالم بعد الحرب العالمية الثانية... حتى بدأت جريمة الإبادة الجماعية الكبرى في غزة، من قبل جيش الكيان الإسرائيلي، بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. وعندما استذكر البوسنيون، أول أمس الجمعة، الذكرى الثلاثين لإبادة المسلمين في سربرنيتسا، كانت غزة حاضرة بقوة، بعد أن أصبحت الإبادة الجماعية الأكبر في تاريخ العالم المعاصر. رفع البوسنيون، الذين جابوا شوارع سراييفو، شعاراً قالوا فيه : « بالأمس سربرنيتسا ... اليوم غزة... غداً ؟ « وهو تعبير صارخ عن النقاط المشتركة بين الإبادتين: كلتاهما وقعت تحت أنظار العالم، وسط صمت المجتمع الدولي. لتؤكد الفشل المتكرر لشعارات مثل « لن يحدث بعد اليوم « التي تطلق بعد كل كارثة إنسانية .
مقابل المقبرة التذكارية لضحايا سربرنيتسا، وعبر الشارع العام، تحول مقر القوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة إلى متحف يعرض صوراً وأفلاماً ومقتنيات عن جهود هذه القوات لحماية المدنيين، وتوفير الملجأ والخدمات الطبية، قبل المجزرة واثناءها وبعدها، لكن ذلك لا يقنع أحداً حين ينظر إلى المقبرة في الجانب الآخر ... مقبرة بوتوتشاري! .
قلتُ لأيمن، بعد أن أمضينا ساعة كاملة في المقبرة، لنكمل طريقنا إلى مركز سربرنيتسا التي تعني « مناجم الفضة «، نسبة إلى معامل سك النقود الكبيرة التي كانت فيها أيام الإمبراطورية الرومانية. لكن لا أرى من اسمها شيئاً، ألمح شيئاً، فظل المأساة لايزال يخيم عليها كابوساً أسود، كما لو وقعت اليوم. تابعنا السير حتى نهاية حدود المدينة. بدت شوارعها خاوية ... فهل كان ذلك بسبب الوقت ظهيرة، والطقس شديد الحرارة ، أم أن ذكرى الإبادة ما زالت ترنّ في أزقتها ؟ ! .
هيا أيمن .. قد السيارة بسرعة. لنعد إلى سراييفو ! .