كتب : محمد خليل كيطان
بدءاً من جريدة الزوراء التي حملت اول مشعل انار درب الصحافة العراقية إلى كناس الشوارع وحبزبوز اللتين علقتا وما زالتا حيتين في ذاكرة القارئ العراقي ..
نتعرض هنا الى سيرة الصحافة الهزلية في العراق والتي كانت حافزاً لتعليم القراءة والكتابة، وجعلت الكرخي يهتف: (يوم الأكشر يوم عض السانه ).
حبزبوز .. جريدة عراقية كاريكاتيرية ساخرة، رئيس تحريرها وصاحب امتيازها الصحفي نوري ثابت، صدر العدد الأول منها في 29 أيلول 1931.
ويصنّفها البعض كأول صحيفة هزلية ناقدة تشنّ حملات ساخرة تجاه الحكومة والبرلمان، وتنتقد سياسة الاحتلال البريطاني، وتنشر مقالات تحريضية ضد الانتدابات والاتفاقيات والمعاهدات وحتى قانون المطبوعات.
وكانت الناس تتهافت على الجرايد لأنها المصدر الأساس والموثوق للأخبار والقرارات الحكومية والأسرار البرلمانية، وحتى الذي لا يعرف القراءة والكتابة كان يشتري الجريدة ويبحث عن الذي يقرأها له بل ان الجريدة كانت حافزاً لدى الناس لتعلم القراءة والكتابة في الكتاتيب والمدارس وكانت المقياس الشعبي الامثل للثقافة والتنوير .
والحقيقة أن بدايات الصحافة في العراق سبقت حبزبوز بسنوات طويلة، حيث تعود إلى العام 1869، حين صدرت أول صحيفة عراقية هي “زوراء” او «الزوراء» بطبعتين تركية وعربية، ثم “جريدة الموصل” عام 1885، و”جريدة البصرة” عام 1889.
ويؤكد المؤرخ عبد الرزاق الحسني أن المدة ما بين 1908 و1933 شهدت صدور 90 مجلة و213 جريدة سياسية وأدبية وفكاهية.
ويقول حمدان خضر السالم في كتابه “صحافة السخرية والفكاهة في العراق” إن (مرقعة الهندي) كانت أول صحيفة ساخرة صدرت في البصرة عام 1909، وسميت بذلك تشبيهاً بالثوب المرقّع، حيث كانت تجمع الطرائف والفكاهات من كل مكان وتقدمها للقارئ بشكل كشكول من الاخبار تماشيا مع المثل القائل ، من كل زيج ركعة.
ومن بين أشهر الصحف الساخرة الأخرى: جريدة “جكه باز” في الموصل، و”النوادر” في بغداد (1911)، و”بابل” و”البدائع” و”المراقب” و”النديم”، وجريدة “الكرخ” للشاعر ملا عبود الكرخي التي صدرت عام (1927) والتي كتب في افتتاحيتها :
اول ما توكلنا على الرحمن
نشتم كل عنود وخائن الاوطان .
وهناك جريدة ”أبو حمد” لعبد القادر المميز (1933) ثم جريدة «أبو الشمقمق»التي أصدرها حسين النجاتي سنة 1939 وسميت كذلك نسبة الى الشاعر العباسي مروان بن محمد ابو الشمقمق المتوفى عام 200 هـ .
ومن بين الصحف التي تركت أثراً لافتاً في تلك المرحلة، كانت جريدة “كناس الشوارع”، والتي صدرت في الأول من نيسان 1925، لصاحبها ومديرها ميخائيل تيسي.
وكانت كناس الشوارع تسلّط الضوء على شؤون الحياة اليومية، وتدعو إلى تحسين الخدمات من ذاك الوقت والاهتمام النظافة العامة، وإنارة الازقة، وتبليط الطرق، وردم المستنقعات، كما انتقدت المحتالين على قوت الشعب، وهاجمت الخرافات والبدع، وطالبت بتربية جيل واع جديد، وقد استعانت في أسلوبها بالشعر الشعبي والتهكم والغمز السياسي المباشر. لكنها لم تسلم من الاستهداف، فقد تعرض صاحبها لمحاولة اغتيال خطيرة، مما أدى إلى توقف الجريدة نهائياً في 2 كانون الأول 1926.
وذكر الكاتب الموسوعي حميد المطبعي أن ميخائيل تيسي وُلد سنة 1895، وبدأ حياته المهنية في التجارة، لكنها لم تنجح، فاتجه للعمل الحكومي، فعُيّن عام 1918 رئيس كُتّاب في دائرة الأوقاف، ثم انتقل للعمل في ديوان وزارة الدفاع، وبعدها تم تعيينه قائمقاماً لقضاء الشيخان في الموصل، لكنه ما لبث أن استقال من منصبه الحكومي، وقرر أن يتفرغ للصحافة التي أحبها بحق .
أما جريدة حبزبوز، فقد تميزت بجمعها بين المقال الساخر والكاريكاتير السياسي، وكان من أبرز رساميها:
سعاد سليم اخو الفنان جواد سليم وعبد الجبار محمود، ومصطفى أبو طبرة صاحب المثل المعروف جفيان شر ملا عليوي ومفاده ان شخصاً قروياً كان يريد الزواج من فتاة اشترط والدها عليه ان يصطحب معه بمراسم الخطبة امام مسجد القرية الملا عليوي بينما كان الشباب لا يطيق الملا ولا يصلي خلفه كما ان الملا يبادله الشعور نفسه وعليه فقد اشترط على الشاب قائلا : اذا ما تصلي ورايه ما اروح اخطب لك أبداً فما كان من الشاب الا ان وافق على مضض ووقف يصلي خلف الملا وهو يقول ( نويت ان اصلي صلاة الظهر جفيانا لشر ملا عليوي ) .
نعود لصاحب حبزبوز وهو نوري ثابت الذي ولد سنة 1898 ببغداد، في بيئة متعلمة، ودرس في مدارسها، ثم التحق بدار المعلمين وتخرج منها.
عمل في بداية حياته في التعليم، وكان أستاذاً محبوباً لدى طلابه، لكنه كان يحمل روح التمرد والسخرية اللاذعة.
وكان ثابت من تلامذة الشاعر الكبير معروف الرصافي، وقد تأثر بأفكاره التحررية والوطنية.
في بدايات الثلاثينيات، نشر نوري ثابت مقالات ناقدة في عدة صحف وطنية بأسماء مستعارة مثل:
جدوع بن دوخة، ابن ثابت، بياع شراي، غشيم، خادمكم المعلوم، ثم أبو أحمد.
وكانت هذه المقالات تفضح الفساد والمحسوبية، فتعرض على إثرها للفصل من وظيفته عام 1933.
ورغم التضييق، لم يتوقف ثوري ثابت بل أطلق جريدة “حبزبوز”، مستخدماً اسماً فكهاً معروفاً في الأوساط البغدادية الشعبية لاحد الشقاوات الفكهين هو “أحمد حبزبز” لكنه بدّل الاسم إلى “حبزبوز”، فكان اختياره موفقاً لأنه عبّر عن خطه الصحفي الشعبي البسيط والعميق في آن واحد.
كان نوري ثابت يعتبر الصحافة رسالة مقدسة، ووسيلة لتوعية الناس وليس مجرد وسيلة للضحك فقط.
كان يفضح أساليب الاستعمار البريطاني وخداع السياسيين، ويطالب بتحسين الواقع العراقي بلغة شعبية ذكية تخترق وجدان الناس.
وقد وُصِف بأنه “شارلي شابلن الصحافة العراقية”، لأنه جمع بين الفكاهة والرسالة.
انتشرت حبزبوز وذاع صيتها وكان الناس ينتظرون صدورها بفارغ الصبر ، ووصل عدد نسخها الى عدة الالاف وربما تجاوز الـ 4 الاف نسخة في الطبعة الواحدة .
واشهر كتاب حبزبوز هو الملا عبود الكرخي الذي كان يطعم مقالاته بشعره الشعبي اللاذع .
وقيل ان الكرخي كانت عنده مزرعة في منطقة المحمودية تضم العديد من الحيوانات من بينها ثور قوي يستخدم لحراثة الارض كان يتباهى الكرخي بقدراته الجسدية إلا هذا الثور مات فجأة ! فما كان من الكرخي الا ان كتب قصيدة عبر فيها عن حزنه على ثوره معرجاً على الاوضاع السياسية في البلاد وهو يقول :
وين اودي سجته وفدانه
يوم الاكشر يوم عض السانه
مات ثوري اليكرب الحلبه وفجل
ثليثي ماكمل تره بعده عجل
من تشوفه اتكول هذا أمن الابل
ماي صافي اورده بنجانه..
يوم الاكشر يوم عض السانه
اتحب ازيدك بعد ياسمح الضلف
الشريف اصبح يخدم العاطل جلف
وكاسد البلور واترقه الكحف
الجان جوانه صفه فوكانه..!
يوم الاكشر يوم عض السانه
يوم الاكشر يوم عض السانه
ومثل ما مات ثور الكرخي على حين غرة توقفت حبزبوز عن الصدور أيضا بعد أن توفي صاحبها نوري ثابت في 12 تشرين الأول 1938 وهو يصارع مرض السل، عن عمر لم يتجاوز الـ41 عاماً ، ودفن في بيته ببغداد الذي تحول فيما بعد الى جامع صغير يسمى جامع بني سعيد .
مات حبزبوز لكنه بقي علامة فارقة في تاريخ الصحافة العراقية، وصوتاً لا يُنسى في ذاكرة الشعب .