رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
الاستلاب في حضارة الذكاء الاصطناعي


المشاهدات 1306
تاريخ الإضافة 2025/06/29 - 9:30 PM
آخر تحديث 2025/07/01 - 12:25 AM

ما الحضارة إلا بنية من المنجزات البشرية مادية كانت او فكرية، كالمنجزات العلمية، الصناعية، الزراعية، التكنولوجية، العمرانية، الادبية، الفنية، الاخلاقية، اللغوية، الدينية، .. وهذه هي عناوين عامة للمجتمعات، حيث تفرق الأخيرة تفاصيل مضافة اكثر خصوصية تشكل بنية ثقافتها المجتمعية كالنسق الاسلوبي المكون من عادات وتقاليد ومعتقدات وقيم  وموروث ، مضافا له شكل الحكومات دكتاتورية، ليبرالية، طبقية، دينية … الخ.
هذه التفاصيل او المنجزات جميعها هي علاقات ضرورية تعمل على تماسك بنية المجتمعات الحضارية وتطورها باستمرار من خلال الأجيال المتلاحقة التي قد تغنيها او تضعفها.
إن العناوين العامة للحضارات كالزراعية.. الخ من الحضارات جميعها ترفيهية، خدمت البشر وسهلت حياتهم، لكنها في الأعماق تضمر دوافع استلابية ولعل أكثرها استلابا للانسان هي حضارة الذكاء الاصطناعي، ولنا معها وقفة تفصيلية؛ أن تحديد بدء هذه الحضارة يشتمل على تداخل معقد مع المنتجات التكنولوجية السابقة، فإذا صح الاستنتاج ستكون بداية هذه الحضارة مع ثورة المعرفة الرقمية ضمن التطبيقات النصية التوليدية منذ 2023، لكن قبل ذلك فإن للانترنت والويب دور رئيسي في خلق ملامح هذه الحضارة، من خلال تشكيلهما حضارة رقمية بقيادة شركتي مكروسوفت وغوغل، الأولى بتوفيرها انظمة تشغيل وبرمجة الحواسيب منذ ثمانينيات القرن العشرين، والثانية التي قدمت للمجتمعات محرك بحث يحوي كما هائلا من المعلومات، وذلك منذ تسعينيات القرن العشرين، وترسخت نواة الرقمنة مع ما قدمته هاتان الشركتان لاحقا من معرفة رقمية منظمة متطورة وفي متناول الجميع من غوغل، او من أدوات شكَلت العقل الرقمي من حواسيب وبرامج كالوورد وغيرها التي وفرت كتابة وتخطيطا، هما طفرة نوعية من ميكروسوفت. هذا فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي من فيسبوك وغيره، الذي قدم تحولا في بنية التواصل بين المجتمعات وداخلها.
والحق أن التحول الرقمي من التكنولوجي إلى المعرفي بدأ مع ولادة الـ Transformer والذي طرحته شركة غوغل لفهم تناسق الجملة منطقيا بشكل دقيق وذكي، وتوالت بعده التطبيقات المبتكرة المولدة للنصوص كـ BERT و GPT وغيرها منذ 2017.
وهنا يحق لنا أن نعين بداية هذه الحضارة التي امتدت منذ ثمانينيات القرن الماضي الى اليوم، إذ يبدو بالنسبة لي أن حضارة الذكاء الاصطناعي بشكلها الدقيق يمكن أن تعزى إلى ثورة الـ ChatGPT وتطبيقات توليد الصور والفيديوات والاصوات الذكية منذ 2023  واجتياحها المجتمعات البشرية منذ 2024..  والتي من الملاحظ أنها بدأت تترسخ  كثقافة مجتمعية  عامة.
يستند شكل حضارة الذكاء الاصطناعي هذا، او لنسمها حضارة ما بعد التقنيات والآلات اللاشبكية واللاتفاعلية، يستند كما نوهت سابقا إلى تحول جذري (ثورة) في انتاج المعرفة، وإن بنية هذا التحول التحتية عبارة عن  بيانات وخوارزميات ومعلومات تكون متاحة للجميع، سريعة، سهلة، قابلة لتوليد المعلومات بشكل لا نهائي، وهي مشتركات معلوماتية رقمية لسكان الارض عموما، ستلزمهم التواجد في شبكة جغرافية متقاربة الحدود والثقافات، ستقصر لهم المسافات، وتذوب الحدود وتجعل الزمن لحظة..
وهذا الانتاج المعرفي الثوري سيعيد صياغة كامل إنجازات البشر  والحقول المعرفية على وفق أدواته الجديدة. 
إذ بدأ الذكاء الاصطناعي لأن يكون شريكا معرفيا للبشر إن لم اقل أنه سيلعب الدور الرئيسي لإعادة تشكيل العلاقات في منافذ الحضارة كالتعليم والتصنيع والاقتصاد والطب وحتى الادب والفلسفة ...شكل هذه الحضارة سيتجسد من قدرة الخوارزميات والبيانات في أن تكون بديلة عن التفكير البشري، والذي سيجعلها تطبع الواقع بطبيعة آلية لتوجيه البشر والتفكير له واختيارها له التعلم، الوظيفة، الصناعة، الهوية وحتى ما يشعر به، فالكتابة مثلا التي كانت مصدر قوة دماغنا، اصبحت اصطناعية تفكر بدلا عنا. وعليه سيكون إنسان هذه الحضارة مجرد كائن تفاعلي وهي الصفة التي ستلازمه حتى مماته والتي قلبت كل القيم المتعارف عليها، فهو سيبحث عن الاعتراف تواصليا، وقيمته ستتحدد على قدر التفاعلات (اللايكات مثلا)، وهكذا ستتحول كينونته تدريجيا لأن تكون رقمية ووجوده خوارزميا.
أما الذكاء التوليدي الذي رقمن معرفته فستترتب عليه مخاطر تمس وجوده كانسان، إذ سيصبح مستلب الوعي، بلا وظائف ومهام واقعية تحفيزية واعية، بل بوظائف رقمية افتراضية تلزمه على الدخول إلى السجن الذهبي (اقصد الشاشات صغيرة كانت ام كبيرة)، ما سيسلبه النشاط والقوة وهو الاستلاب الثاني أي استلاب الجسد ... سابقا قال فوكو إن المعرفة سلطة، وهو يعني بهيمنة السلطة المعرفية بيد منتجيها ومستثمريها، فإذا كانت السلطة الصناعية التي امتلكت وسائل الانتاج تستلب جهد العمال كما تنبأت عبقرية ماركس، فإن هيمنة السلطة الرقمية ستستلب وعي وجسد كل البشر من العاملين وغير العاملين.. وهي ليست هيمنة معرفية فقط بل هيمنة رقابية ترقمن نوايا البشر ومقاصدهم واهتماماتهم، لتسحرهم بالتوقيع على قراراتها وارادتها هي، إنها هيمنة عامة ستسلب كل ما هو إنساني من الانسان. وهذا الاستلاب سيختلف عن استلاب ماركس لأن الانغماس بالرقمنة سيفقد الانسان الشعور بالاغتراب منها، إنه سيفقد كل شعور سوى شعور الابتهاج بايجابيتها… إذن… هل نتوقع أن يثور؟ هل المعارف عفوية؟ هل تقوم الحضارات ابتداءً على حسن  النوايا؟


تابعنا على
تصميم وتطوير