من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، فهم واستيعاب طبيعة و حجم التطورات الأخيرة المرتبطة بالحرب الإيرانية ، الإسرائيلية بالنظر إلى عدم تناسقها و انسجامها مع السياق العام التي صارت عليه الحرب طيلة حوالي الأسبوعين التي استغرقتهما. فالعنوان البارز لهذه الحرب الذي فرض نفسه طوال هذه المدة ، وكان عنصرا رئيسيا في مجمل التوقعات و الاحتمالات ، كان يتلخص في التصعيد الخطير الذي وضع المنطقة تحت رحمة الأخطار الكبيرة التي كانت محدقة بها ، وفتحته حول آفاق غامضة ، خصوصا بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحرب باستهداف منشآت نووية إيرانية في عمق التراب الإيراني ، مما نقلها إلى مستوى المشاركة المباشرة في الحرب بما شكل سندا قويا للكيان الإسرائيلي . لكن الذي حدث، وبصفة مباغتة، أن التطورات زاغت عن السياق العام للحرب ، وفرضت مستجدات بديلة نقلت الأوضاع من التصعيد المنفلت إلى التهدئة و الاتفاق على تسوية معينة التي كادت تلغي جميع ما سبقها من أحداث خطيرة جدا .الواضح إن التسوية المعلنة طبخت على نار صاخبة هذه المرة، مما مكنها من الخروج إلى العلن في زمن قياسي لم يكن يخطر على بال أكثر المحللين و المتابعين قدرة على استقراء مسارات الأحداث هناك. تسوية مستعجلة شكلت وصفة علاجية خفضت من مستويات الآلام و الأوجاع ، ومثلت ترضية مناسبة لأطراف الحرب الذي أضحى بإمكان كل طرف منها أن يزعم انتصاره و تحقيقه لأهدافه من الحرب.هذه الوصفة أتاحت لإيران أن تحتفي بانتصارها الواضح و البين في حربها ضد الكيان الإسرائيلي بعدما دكت صواريخها عمق تراب الكيان الإسرائيلي، وحطمت بذلك خرافة القوة الردعية للكيان و فرضت قناعة ذهنية سلبية لدى الإسرائليين تؤكد لهم أنهم ليسوا في منأى ولا في مأمن من الأخطار الخارجية . و هذه معالم و مؤشرات انتصار فعلي. من جهة ثانية، مكنت هذه التسوية حكومة الكيان الإسرائيلي من أن تزعم أنها حققت أهدافها من الحرب بعدما أمطرت صواريخها العديد من مناطق التراب الإيراني وقتلت قادة عسكريين و علماء إيرانيين، وأنها بذلك قلمت أظافر الخطر الإيراني عليها . وهي مزاعم انتصار لأن قادة النظام أعلنوا في السابق عن أهداف كبرى أخرى لم تتحقق. من جهته، دفعت التسوية التي تشبه الوجبة السريعة الرئيس الأمريكي إلى أن يكرس صورة المتحكم النفاذ في الأوضاع في المنطقة ، والقول بأن سياسته الخارجية انتقلت إلى صيغة الأوامر. وأيضا أتاحت التسوية لدولة قطر القيام بوساطتها المعهودة في العديد من النزاعات الملتهبة ، لكن هذه المرة نجحت بامتياز في وساطة مختلفة من حيث طبيعتها وصيغتها . وبذلك ضمنت الوجبة السريعة التي طبختها الإدارة الأمريكية على نار صاخبة لجميع الأطراف أن ينتقلوا إلى المرحلة القادمة، سواء تعلقت بمفاوضات أو اتصالات، من موقع المنتصر الذي حقق أهدافه من الحرب، وليس من موقع المنهزم الذي يرضخ لشروط الطرف الآخر. تسوية أبدعت في فرض انسجام بين تناقضات حادة، وفي توحيد عناصر هذه التناقضات لترتب نتائج عكسية مخالفة للسياق الذي فرضته دواعي وأسباب الحرب .