رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
ما أثمن الكتابة رغم كونها مكابدة مخاض


المشاهدات 1363
تاريخ الإضافة 2025/06/22 - 10:36 PM
آخر تحديث 2025/07/01 - 12:28 AM

‏كتابتي مكابدة مخاض ووجع، وإن كنت أراها أثمن ما أنجزته في محطات حياتي. لا أرى نفسي مخترِعًا أو مكتشفًا أو فيلسوفًا، ولم أكن أتوقع في بداية حياتي أن أصبح كاتبًا، وإن كنت أتوق لذلك. أنا قارئ شغوف بالمعرفة. لم أدرك لأول وهلة ورطة الكتابة، إلى أن تحولتْ إلى صنعة العمر، فصرت أراقب كتابتي بحذر، وأتتبع انطباعات القراء الخبراء وتصويباتهم، وما ينبغي عليّ أن أقدمه. الكاتب مدين للقراء، وعليه مسؤولية كبرى يفرضها ضميره الأخلاقي ليكون وفيًا لهم، القراء يأتمنون الكاتب الذي يثقون بوعيه على عقولهم وقلوبهم وأرواحهم، فعليه ألا يخذلهم، ولا يعبث بهذه الثقة الغالية. عندما أقرأ بعض الكتابات وأشعر بالضجر، أتذكر مَن يقرأ كتاباتي ويعاني مثل هذا الشعور كما أعاني من كتابات هشة، ما يستحثّني على إنفاق وقتي وطاقتي القصوى في الكتابة. لو أردت الكتابة أفكر طويلًا وأقرأ كلَّ ما يتوفر في مكتبتي، وهي مكتبة كبيرة تضم آلاف الكتب المتنوعة، منتقاة بعناية لتأمين ما يتطلبه شغفي بالقراءة وكتاباتي. كنت أبحث في المكتبات الورقية، واليوم في الإنترنت، عما يخصّ الموضوع الذي أكتبه، أسعى بحدود قدرتي لدراسة الموضوع وبحثه من مداخله كافة، وصياغة رؤيتي بشأنه. عمري أنفقته في القراءة والكتابة، أنظر لكتابتي بوصفها محاولات في فهم الوجود، واكتشاف ذاتي، وتفسير طبيعة الإنسان، ومعرفة العالم الذي أعيش فيه، وتحري وجوه الحقيقة وتعبيراتها المتنوعة، وأقرب وأوضح ما يوصل إليها من الطرق. لا أرى كتابتي جزميات ويقينيات نهائية، ما يجعلني أعيد النظر فيها وأمحّصها وأغربلها، وأكتشف أخطاءها قبل غيري، وأحاول تصويبها، بلا أن يؤذيني ذلك، بل يعزز ثقتي في كلماتي بعد تصويبها وتنقيحها.    ليست هناك كتابة مبرأة من استعمال الكلمة بوصفها قناعًا ينشد تمرير ما تخفيه دوافع الكاتب الواعية وغير الواعية. ما دمتُ أحلم بالكمال فلا يمكن أن يرضيني بشكل كامل أيُّ منجز. الرضا نسبي، حتى لو رضيت اليوم عن كتاب أصدرته أو مقالة نشرتها، فحين أعود إليها بعد سنوات أشعر بالحزن أحيانًا من بعض ما كتبته فيها، فمثلا حين أقرأ ما كتبته قبل أكثر من أربعين عامًا أجدني كتبت شيئًا من أحلام هوية جماعتي وتطلعاتها للغد، أحلام تنتمي إلى مخيلة الجماعة ونرجسياتها وسردياتها ويقينياتها غير المبرهنة، بلا أن أفكر فيها بعمق أو أُمحصها. 
صنعت المخيلةُ للإنسان عالمًا موازيًا للعالم الواقعي الذي يعيش فيه. يتألم ويرتاح في ذلك العالم، ويحزن ويفرح، ويبكي ويضحك، ويهبط ويتسامى، ويستفيق عقلُه وينام. واستطاع بالفنون السمعية والبصرية، وبالكتابة بمختلف أجناسها أن يستثمر ما أنتجته المخيلة، مما هو حيوي خلّاق، فيوفّر لنفسه ملاذًا آمنًا يحميه من عبء الواقع ووطأته القاسية وصخبه وعنفه.
الكتابة تقاوم الشعور بعبثية الحياة وافتقارها للمعنى. الكتابة تضاعف قوة الذات وتخفض شعورها بالعجز، وتعزز شجاعة التفكير، وتعمل على تصلب الإرادة وشدتها. الكتابة تخفض شعور الكاتب بقلق الموت، بل تتحدى الموت عبر تنمية الشعور بالخلود الأبدي. الكتابة مخاض لكنها كلّما تقدّم عمري ترفد سلامتي النفسية. على الرغم من إرهاق الكتابة ومشقاتها، لكن لو لم أكتب أتعب نفسيًا جدًا. أحيانًا أنقطع عن الكتابة مدة، فأشعر ببؤس حياتي وظنكها، الكتابة تنهكني لكنها تنقذني من الشعور بضراوة الحياة والهشاشة في خوض تحدياتها المتواصلة، وتمكّني من الاصرار على الحضور في صراعاتها المريرة.
أشدّ النصوص تأثيرًا في القراء ما يكتبها الكاتب لحظة اتقاد عواطفه ويقظة وعيه.كلّ كتابة يكتبها القلب تشكّل تكريسًا لوجودنا.كلُّ طور وجودي يتكرّس فيه وجود الإنسان ويغتني لن يزول أبدًا. هذا النوع من الكتابة يمكث طويلًا، وهي قليلة، مقارنة بالكم الهائل من الأوراق المكدّسة على أرفف المكتبات، الغارقة في فائض لفظي لا يتذوق فيه القارئ المحترف كلمة لذيذة أو فكرة جيدة. أكثر الكتّاب يداوون جروحهم بالكتابة، لولا الكتابة للبث الصراخ والآهات والأنين بين الضلوع، فمزّق الإنسانَ من الداخل. 
تعلمت من الكتابة أشياء متنوعة، إلا أن أثمن ما تعلمته منها وأتعبتني به هو الإيقاظ المتواصل للعقل والتفكير المتأمِّل، والتساؤل عن المسلّمات، وما اشتهر أنه بديهيات وقضايا لا تقبل النقاش. أعرف أن إدمانَ التفكير حالةٌ غير مريحة للروح والقلب والمشاعر، هذا النوع من التفكير إن كنا نعيشه على الدوام تنفر منه النفس لأنه لا يُطاق، التفكير المتأمل عملية شاقة يهرب منها أكثر البشر، إذا تواصلت يقظة العقل صمتت العواطف وخمدت المشاعر، وهذه حالة لا يطيقها معظم البشر. تظل للروح استبصاراتها، وللقلب لغته وذوقه، مسارات الروح والقلب والعقل في حياتي متوازية لا مترادفة، وإن كان العقل يظل مرجعية عليا يضبط احتياجات الروح والقلب، ويضيء لهما خارطة طريق إشباعها، لئلا يتخبطا في متاهات الضياع، والغرق في الوهم والخرافة والشعوذة. لا أفكر إلا بشيء أساسي في حياتي وداخل عائلتي وعلاقاتي، وهو أن أكون وفيًا لما يفرضه عليّ ضميري الأخلاقي، وما يكرّس سكينة روحي وطمأنينة قلبي ويسقيهما.
ما أجمل أن يحاول الكاتب جعل كتابته ضربًا من الرسم بألوان مضيئة، لحظة يقرأها القارئ يشعر كأنها صورة مرسومة بالضوء. ما يعرفه الكاتب يضمحل بمرور الأيام مالم يثريه بجديد. الكتابة تتكرّس بالقراءة المتواصلة، والتفكير النقدي، والتأمل العميق، وغربلة وتمحيص الآراء، والشجاعة في إعلان أخطاء الكاتب لكتابته وثغراتها، وفضح أوهامه. 
أعرف بعض الكتّاب يمتلك مفردات قليلة وثقافته بسيطة ولا يقرأ شيئًا، غير أنه يدور بهذه الكلمات لكلّ موضوع يكتبه في الأدب والفن والاجتماع والمعارف المتنوعة. يكتب مقالات مطولة تنشر في الصحافة باستمرار، لو حاولت أن تضع النصف الثاني من المقالة محل النصف الأول لن يتغير شيء، وهكذا لو حذفت أية فقرة أو استبدلتها بأخرى. عندما يكتب في الأدب والفن يكرّر الكلمات والمضامين ذاتها، وهكذا لو كتب في السياسة والرواية والنقد الأدبي والثقافي. أنت لا تعرف ماذا يريد، وأظن أنه لا يعرف ماذا يريد، وربما هو لا يعرف من الكتابة إلا إعادة تركيب هذه المفردات بسياق جديد كلّ مرة، بلا أن تنتج معنى مفيدًا يلامس الموضوع الذي يكتب فيه. ‏الكاتب الحقيقي يفكر أكثر مما يقرأ، يقرأ 1000 صفحة ويفكر بتريث ليكتب صفحة واحدة. هذا هو الكاتب الذي تفرض كتابته حضورها الأبدي في المكتبة.
ليس من السهل إبداء أية ملاحظة نقدية مباشرة للكتّاب وغيرهم في مجتمعاتنا، غالبا ما تكون ضريبة هذه الملاحظة تصدع الصداقات مهما كانت راسخة، وربما تضمحلّ الصداقة بشكل متسارع إثر نقد علمي. تطفح في لغتنا كلمات المديح المجوفة، وهذه الكلمات تتضخم وتتراكم وتطغى باستمرار، حين يضيف إليها ويشتقّ منها بعضُ شعراء وكتّاب ووعاظ السلطات السياسية والدينية كلمات مثيرة للدهشة ومبالغات مضجِرة. «الاختلاف لا يفسد للود قضية» هذه عبارة ليست واقعية في مجتمعنا، يقولها كثيرون وكأنها من البداهات، وأكثر مَن يرددها يخونها. يحتاج الإنصات للنقد العلمي والحوار إلى تهذيب وتربية متواصلة حتى يتكرّس في الذات، يبدأ بالعائلة، ويترسّخ في المراحل الدراسية المختلفة، من الروضة إلى آخر مرحلة في الدراسات العليا.‏ مالم تتعلّم وتعمل حكوماتنا ومجتمعاتنا على التربية على الحقّ في الخطأ، والحقّ في الاختلاف، والحقّ في إبداء الرأي وإن كان مضادا، فلا يمكن أن نتعلم ونعمل بتقاليد الإنصات للنقد العلمي، والحوار الذي يغربل الآراء ويمحّصها ويختبر مصداقيتها في الواقع. ‏استعلاء بعض الكتّاب يوهمهم بالاكتفاء بما يعرفون، وعدم الحاجة إلى قراءة أيّ جديد. أعرف كتّابًا كانوا يكتبون بشكل جيد، شعورهم بالاكتفاء دعاهم لترك القراءة وعدم مواكبة ما تراكمه المعرفة كلَّ يوم، فلبثت كتاباتهم تضمحل ويهملها القراء بعد أن رأوها تكرّر كلَّ شيء، وكأن كلَّ شيء يتغير إلا ما يكتبون. تحدث جورج طرابيشي في محاضرة فقال: «تنوّع آبائي الذين اخترتهم في فترة من عمري، أول شبابي اخترت ميشيل عفلق، وصرت بعثيًا، لكن لم يدم الأمر طويلًا لسبب بسيط، وهو أني كنت أتقن اللغة الفرنسية، ولما كانت الوفود الأجنبية تأتي وتريد لقاء عفلق - وهو مؤلف كتاب مشهور تربينا عليه، اسمه في (ذكرى الرسول العربي) - كنت أقوم بالترجمة، فسأله الوفد اليوغسلافي الذي جاء لمقابلته حينها: (ما هو آخر كتاب قرأته؟)، فإذا بي أفاجأ بجواب صدمني، وأنا الذي كنت أتعبد له وأقدسه، أجاب عفلق: (أنا أفتخر بأني منذ خمسة عشر عامًا لم أقرأ كتابًا واحدًا، وكلّ ما كتبته هو من بنات أفكاري!)، فجعت، فأنا كنت عاشقًا للثقافة من صغري، ومحبًا للكتب، فصعقني هذا الجواب من عفلق» .


تابعنا على
تصميم وتطوير