في المقاهي القديمة الهادئة في أمستردام، وبين أروقة البرلمان الهولندي، يدور اليوم حديث ملحّ: ماذا لو اضطرت أوروبا على حين غرة لمواجهة الروس عسكرياً دون دعمٍ امريكي؟
مع تصاعد التوترات في أوروبا الشرقية، ومع شبح تغيرات سياسية محتملة وتمدد مساحة القتال وتقلص لغة التهدئة، يلوح السؤال في أذهان الساسة والمحللين العسكريين: هل تملك أوروبا حقاً القدرة على الوقوف وحدها أمام موسكو؟ من الناحية التقنية، تمتلك أوروبا مواردَ ضخمة. جيوشاً منظمة، صناعات دفاعية قوية (من مقاتلات داسو الفرنسية إلى مدرعات راينميتال الألمانية)، وقوى نووية فرنسية وبريطانية. لكن الحقيقة القاسية هي أن هيكل الأمن الأوروبي منذ نهاية الحرب الباردة وهو معتمدٌ بشكل شبه كامل على المظلة الأمريكية عبر الناتو. فبدون القيادة الأمريكية ستواجه أوروبا تحديات في مجال المعلومات الاستخبارية وانعداماً في التفوق الجوي طويل الأمد بالاضافة الى الدعم اللوجستي العابر للحدود.
ومع تزايد الغموض حول استدامة التزام واشنطن بحلف الناتو، تجد أوروبا نفسها أمام خيارين مصيريين. بناء قدرات دفاع ذاتية حقيقية أو المجازفة بفراغ أمني قاتل. وفي ظل هذه التغيرات تجد أوروبا نفسها تحت ضغوطات أكثر خطورة من السلاح وهي الإرادة السياسية. فالاتحاد الأوروبي وهو جزء من الناتو ليس تحالفاً عسكرياً فعلياً، والخلافات بين الدول الأعضاء ابتداءً من السياسة الألمانية الحذرة إلى المقاربة البولندية المتشددة، تعقّد اتخاذ قرارات سريعةٍ وموحدة. فأختلاف اقتصاديات هذه الدول وتباين قراراتها وتناحر رؤيتها في شتى المواقف, جعل منها عرضة للتفكك ما حدا بحزب اليمين المتطرف على سبيل في هولندا بقيادة المتشدد - خيرت فيلدرز- من تبني فكرة خروج هولندا من الاتحاد. ويحدث هذا والناتو تحت إدارة رئيس وزراءٍ هولندي سابق - مارك روته -. وهذه هي احدى تعقيدات المشهد الأوروبي. فهولندا، الدولة الصغيرة ذات الجيش المهني عالي الكفاءة، تمثل نموذجاً لهذا التعقيد: التزام قوي بالناتو، قلق بالغ من اعتماد أوروبا على واشنطن، لكنها تفتقر إلى الثقل العسكري لخوض مواجهة كبرى وحدها. في الأوساط الأمنية الهولندية، هناك إدراك متزايد بأن الاستثمار في الدفاع الأوروبي أصبح ضرورة. برنامج التحديث في القوات الجوية والبحرية الهولندية جزء من هذا التوجه. لكن هذا لا يكفي وحده. ولكن أين روسيا من هذه التعقيدات؟ وهل لها النية في استدراج أوروبا في حربها مع أوكرانيا ام العكس؟
رغم الخسائر التي تكبدتها في حرب أوكرانيا، تظل روسيا قوة نووية ضخمة بجيش مجرّب. وفي سيناريو مواجهةٍ مباشرة مع أوروبا، قد تراهن موسكو قبل أي هجوم عسكري واسع على الارباك السياسي الحاصل في الساحة الأوروبية. «علينا أن نفكر جدياً: هل نستطيع أن نحمي أنفسنا إذا تراجع الدعم الأمريكي؟»،
هكذا صرّح مؤخراً ضابط هولندي متقاعد خلال ندوة في لاهاي حول مستقبل الأمن الأوروبي. السؤال لم يعد نظرياً. في ظل عودة رئيس أمريكي» كدونالد ترامب» إلى السلطة، الذي كثرت تصريحاته المستفزة للاوربيين وتلويحه برفع التسعيرات الأمريكية على البضائع الأوروبية مرة أخرى.
عسكرياً، تبدو فجوة الإنفاق واضحة بين الطرفين. وهذا ما يلوح به الرئيس الامريكي دونالد ترمب عند كل مناسبة مع الأوروبيين ليصل الأمر حد التعيير والتشهير. وهذا ما لا ينكرهُ الأوربيون أنفسهم, فالولايات المتحدة تنفق 3-4 أضعاف ما تنفقه دول أوروبا مجتمعة على الدفاع. ناهيك ان القدرة الأمريكية في الناتو هي العمود الفقري لتحريك القوات في أي صراع. فالأنظمة الأوروبية للاستخبارات الفضائية والاتصالات على سبيل المثال لا تزال تعتمد حتى لحظة كتابة هذا التقرير بشدة على البنية التحتية الأمريكية. فكيف بها لو كتبت لها المواجهة وحيدة أمام روسيا؟ التي رغم حربها المرهقة في أوكرانيا ما زالت تحتفظ بترسانة نووية هائلة وجيش بري مدرّب، تحتاج أوروبا لمواجهته إلى قدرات متكاملة: قوات برية مرنة، دفاعات جوية متطورة، وسائل ردع استراتيجية، ولوجستيات عابرة للحدود. وكل هذا وذاك من الأمور لا تزال في طور الإعداد. الواقع الذي يرجحه بعضُ المراقبين بأن ما تعيشه اوربا من عجزٍ عزَّ نظيره، حصل بارادةٍ أمريكية منذ اوائل الحرب الباردة، لتقييد القارة العجوز ما يعزز ولاءها للولايات المتحدة و يضمن نفورها عن السوفيت أو الروس اليوم،
حتى اليوم، لم ينجح الاتحاد الأوروبي في تطوير «روح استراتيجية مشتركة» رغم محاولات عديدة. لو نشبت حرب شاملة مع روسيا اليوم بدون دعم أمريكي، لن تستطيع أوروبا — بما فيها هولندا — أن تضمن دفاعاً ناجحاً وفعالاً. لكن هذا السيناريو المحتمل صار الآن محرّكاً جديداً للسياسات الدفاعية الأوروبية. الوقت ينفد، وما لم تبنِ أوروبا «مناعة أمنية» ذاتية في السنوات القادمة، فقد تجد نفسها يوماً ما عارية أمام تهديد قديم يعود في ثوب جديد.