رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
طه الزرباطي الجغرافيا المنكوبة صنعت وعينا وبغداد كانت عشقي البديل


المشاهدات 1691
تاريخ الإضافة 2025/06/16 - 10:43 PM
آخر تحديث 2025/06/22 - 3:37 PM

في هذا الحوار الممتد مع الأديب والشاعر العراقي  طه الزرباطي ، نقترب من ملامح نشأته الأولى، ونتوقف عند محطات تكوينه الإبداعي، ونلامس قلقه الوطني والإنساني، كما نستعرض تجربته في العمل الثقافي والمؤسساتي، وانشغالاته الأدبية، وطموحاته المتأخرة بفعل المعوقات والتحديات. الزرباطي يتحدث بعفوية المثقف الصادق الذي يرى في الكتابة  هماً وطنياً ووجودياً، وفي الكلمة وسيلة للحفاظ على الذات والوطن معًا.
* ما أبرز ملامح النشأة الأولى، وما الذي تبقى منها في الذاكرة والوجدان؟
ـــ ولدتُ في بيت محاط بالكتب والدفاتر والقرطاسيات، إذ كان والدي معلّمًا ومن هواة القراءة والكتابة. لم يكن بيتنا كبيرًا، لكنه كان ممتلئًا بالحكايات، وأشبه ما يكون بمكتبة صغيرة. كل ركن فيه يحمل أثرًا لكتاب، وصوتًا لقصيدة، ودفترًا دوّن عليه أبي خواطره أو تحضيراته اليومية.
أمي كانت تشتري لنا القصص المصورة، وكنت أقرأها بشغف وأقلد رسومها على دفاتر المدرسة. كنت كثير الأسئلة، وأحمل دهشة الطفل في عينيّ. بقيت مشاهد كثيرة راسخة في ذاكرتي، من بينها مشهد الوالدة وهي تقرأ القرآن بصوت خاشع في الصباح الباكر، وصورة أبي وهو يكتب على طاولة خشبية قديمة وسط هدوء المساء.
لقد تشكل وجداني في فضاء يقدّس الكلمة، ويمنح للمعرفة قيمة كبرى، ولذلك فإن هذه النشأة أثّرت كثيرًا في ميولي الإبداعية لاحقًا.
* كيف كان لقاؤك الأول بالأدب، ومتى بدأت ملامح التكوين الإبداعي؟
ـــ كان لقائي بالأدب مبكرًا، وربما لم أكن أعي أنه  أدب  حينذاك. كنت أتابع بشغف روايات الأطفال وقصص المكتبة الخضراء، ثم انجذبت إلى الروايات البوليسية، ومنها انتقلت إلى الأدب العالمي والعربي في سن مبكرة نسبيًا. أول كتاب أدبي ترك فيّ أثرًا عميقًا كان «الأجنحة المتكسرة» لجبران خليل جبران، الذي قرأته في المرحلة المتوسطة. شعرت أنني أقرأ شيئًا يشبهني ويبوح عن مكنونات بداخلي لم أكن قادراً على تسميتها.
* وهل فكرت بالكتابة بعد هذا ؟ 
ـــ نعم ولهذا كتبت أولى محاولاتي الشعرية في الثانوية، ثم بدأت أحتكّ بجماعات ثقافية صغيرة، مثل نوادي القراءة والمسرح المدرسي، مما وسّع مداركي وشجعني على الاستمرار. أظن أن التكوين الإبداعي بدأ يتشكل منذ تلك اللحظات الأولى حين شعرت أن الكلمة يمكن أن تكون موطنًا وسلاحًا ونافذة في آن واحد.
* من هم أبرز المؤثرين في مسيرتك الأدبية؟
ـــ التأثير كان على مراحل. في البداية تأثرت بأبي، الذي كان يكتب الشعر والخاطرة، وإن لم ينشر أيًّا منها. ثم جاء دور المعلمين في المدرسة الذين حفّزوني على الكتابة والمشاركة في الأنشطة الثقافية. لاحقًا، كانت قراءاتي لعدد من الأدباء العرب والأجانب حاسمة في بلورة ذائقتي: جبران خليل جبران، نزار قباني، محمود درويش، غسان كنفاني، ودوستويفسكي، وألبير كامو.
كما لعبت الصداقات الثقافية دورًا كبيرًا في تكويني. كنت دائم الجلوس مع شعراء وشاعرات، وكنت أتعلم من حواراتهم ونقاشاتهم أكثر مما أتعلم من الكتب أحيانًا. هذه الدوائر التفاعلية منحتني وعيًا نقديًا، وساعدتني على تجاوز التكرار والوقوع في النمطية.
* هل كانت البيئة الثقافية والاجتماعية محفزة أم معيقة لمسيرتك؟
ـــ كانت مزدوجة الأثر. من جهة، نشأت في بيئة تُجِلّ المعرفة، كما أسلفت، وهذا شكّل أساسًا قويًا. لكن من جهة أخرى، كانت هناك تحديات اجتماعية واقتصادية تحدّ من الانخراط الكامل في المجال الثقافي. الثقافة، في محيطي، لم تكن دائمًا خيارًا «واقعياً» للحياة. لذا، كان عليّ أن أجد توازنًا بين العمل، والدراسة، والكتابة.
لكني كنت عنيدًا بما يكفي لأحافظ على شغفي. كنت أكتب في الليل، وأقرأ في الحافلات، وأدون أفكاري على هوامش دفاتر الجامعة. ومع الوقت، بدأت أجد لنفسي مكانًا ضمن الوسط الثقافي الأوسع، دون أن أفقد علاقتي بالجذور التي انطلقت منها.
* كيف أثّرت الجغرافيا والتاريخ السياسي على وعيك الثقافي والأدبي؟
ـــ ثمة مدنٌ وحيواتٌ تقع في الجغرافية الخطأ في التوقيت الخطأ، هذا التوقيت يفرضُ سلسلة من الأحداث ليس لك فيها ذنب سوى التواجد في المكان الخطأ، في الزمن الخطأ. مدن كثيرة وقعت في طريق جنازير هتلر فتمزقت، واهينت، ودمرت، واغتُصب إنسانها. أظن أن لمدن الشرق في العراق حظاً عاثراً أيضًا، كالفاو، وزرباطية مثلًا.
قبل الحرب وفي التجاذبات السياسية تعطشت هذه المدن من الطرف الآخر، وتناستها الحكومات قصيرة النظر بالخدمات، حتى اليوم، وحتى الديمقراطية العرجاء لم تُعِد الحياة إلى هذه المدن.
مازالت النخيل المحترقة منذ الحرب واقفة تذكرنا بثماني سنوات عجاف لا معنى لها...
ثنائية التعامل كمواطن من الدرجة الثانية، الإلغاء، التهميش، التماهي، التهجير القسري، وحتى التصفية... كلها الخلفية الأولى التي اصطدمتُ بها. تلك الحربية تتعاون مع العدو لتدمر بساتينك، وأرضك، وذكرياتك، وأنت تحتار ماذا تسمي هذا الفعل الهجين!
يتهمونك، مع أنهم لم يسجلوا ولو خيانة واحدة للسكان لصالح الطرف الآخر.
لعنة خرائط الاستعمار وتقطيع المدن وخلق بؤر سرطانية يمكن أنْ تُثار وقت الحاجة لنلهو بحرب غبية هنا، وحرب هناك...
* وما الذي أفرزته لديك ؟
ـــ  عشقت في وقت مبكر بغداد، المدينة الحضارة التي التجأتُ لها وتقاسمت مع مدينتي الصغيرة عشقي.
فكانت الشناشيل البغدادية، ومقهى البرازيلية، وحسن عجمي، والبيروتي، والبرلمان، والمتنبي، والرشيد بمكتباتها، وقاعات الفن الحديث، والسمفونية الوطنية، وكل المسارح، ومنتدى المسرحيين الشباب، والمعهدين البريطاني والفرنسي، ودور السينما، والأسابيع الثقافية، والحراك الوطني العراقي.من إلغاء هويتك المحلية والفولكلورية، إلى تهجير أصدقائك، وحبيبتك، إلى القصف، والحرب، وحرق البساتين، ومناظر استشهاد المدنيين، إلى روعة بغداد وانفتاحها الثقافي ولو نسبيًا، إلى أنوثتها، وأمومتها، ورونقها.
هذه التشكيلة المتناقضة، المتآلفة، هي النشأة الأولى التي علمتني الحب الأول لوطنٍ أعشقه، والذي لا ذنب له إلا أنه سُرق، وجُرَّ إلى الأهوال رغمًا عنه.
* كيف تقيّم تجربتك في العمل الثقافي المؤسساتي؟
ـــ تجربتي رئيسًا لاتحاد أدباء واسط لدورتين ومشاركًا في كل نشاطاته، جعلتني أنفذ جانبًا من قناعتي أن الحراك الثقافي واجب وطني وأخلاقي.
كل نشاطاتي، حتى في فترة افتتاح البيت الثقافي الفيلي في الكوت، كانت مسخرة لخدمة الثقافة الوطنية العراقية بتنوعها وشرطها العراقي.
كنا نقيم مهرجان المتنبي السنوي، وكانت واسط دون سواها لها مهرجان يُفتتح عند قبر المتنبي سنويًا محتفلاً بأكثر من 120 أديبًا.
تعرض المهرجان لتدخل حكومي لاستثماره لأغراض انتخابية، حاولت المستحيل أن لا نكون لولبًا في آلة السياسة... تحدينا، وتعرضنا، وهددنا حتى توقف المهرجان للضغوطات ولهدم الفندق الوحيد الذي كان يستوعب نشاطنا، وننتظر إعادته منذ عقد تقريبًا.
* حدثنا عن تجربتك مع مجلة «أوراق؟
ـــ مجلة  أوراق  تجربة أخرى جميلة ومريرة وغريبة. مجلة جامعية، يقوم بها رئيس تحريرها، رئيسًا، محررًا، مصورًا، مراسلًا، مصممًا، ومتحديًا للأقلام التي تمتلك السلطة ولا تمتلك الإبداع.
الديمقراطية العرجاء فتحت كل الأبواب وصدّرت لنا أميات بشهادات عالية، ندفع ثمنها؛ لكن هذه التجربة بصراعاتها وتحدياتها علمتني الكثير وأضافت لي خبرة، وهمومًا، وعددًا طيبًا من كتب الشكر... حتى تركتها بعد 6 أعداد، وانتقلت ضمن سلسلة انتقالاتي.
* ماذا عن حياتك الشخصية والعائلية؟
ـــ على المستوى العائلي أنا أبٌ لثلاثة؛ بنتين طبيبتين الآن وطالبتين في البورد، وولد هو طالب في كلية الطب في سنته الأخيرة.. لن أتحدث عن مآسي التعليم الذي تغير كثيرًا وأصبح يشكل عائقًا ماديًا، ومعنويًا، ونفسيًا...
أما مسألة الاغتراب فسببها انهيار القيم الاجتماعية، انهيار الحياة المؤسسية، ضعف القيم الوطنية، تراجع القراءة بشكل كبير انعكس على الثقافة، والأدب حتى لدى المتعلمين.
لذلك الأديب إما أن ينزوي ــ وكيف له وهو جزء فاعل؟ ـ أو ينصهر في هذا المتغير المقلق...
سلسلة «الربيع العربي» المعدّة في المطابخ، وما حصل من انهيار القيم الوطنية والإنسانية، لاسيما في العراق، ولبنان، ومآسي فلسطين، صنع شرخًا كبيرًا في ذواتنا.نحن ذاهبون إلى اغترابنا حتى لو نجحنا بشق الأنفس في صناعة عائلة متعلمة.
* كيف تكتب؟ وهل تختلف طقوسك في الشعر عن السرد؟
ـــ ما زلت أكتب بروحية، وعنفوان شاعر، تحت تأثير اللحظة الشعرية التي تمثل في جوانب منها انثيالات، وانقطاعًا عن الواقع، بتأثير عالم مخفي، روحي.
حتى في السرد، قصة ورواية، أكتب بنفس الروحية.
لكن من حسن الحظ أن لغتي السردية لم تختلط بالشعرية ليشكل اعتراضًا من قبل النقد... في الشعر كتبت بلغتي الشعرية، وفي السرد كنتُ سارداً يمتلك شعرية لم تهز أركان عوالم النثر.
عموماً، الرواية والمجموعة القصصية والشعرية لاقت قبولًا نقديًا طيبًا، كتب ونُشر عنها كم طيب من غير أن أتوسط لهذه الكتابات أو أفرضها على الزملاء.
* كيف ترى دور الاتحاد العام للأدباء والكتّاب؟
ـــ أعتقد أن الاتحاد العام للأدباء والكتاب لعب دورًا وطنيًا ملحوظًا، بل تحول إلى جبهة وطنية، في الموقف الأدبي لأقلام الأدباء، وفي ساحات الاعتراض التي أُدمِيَت بمئات الضحايا من الشباب ومن الأدباء.
في مراحل تاريخية خطيرة كان الوطن أن يتفكك إلى هويات فرعية معدّة في المطابخ السياسية الخارجية، تحولت إلى ذبح طائفي مبرمج وخطير كاد أن يغير معالم هذا الوطن الحبيب.
أظن أن الاتحاد وأدباءه شكّلوا جبهة عراقية وطنية، ولعبوا دورًا بارزًا وما زالوا في الحفاظ على وحدة هذا الوطن، وإعادة النظر في فهم تنوعه الذي أثْرى المنجز الوطني.
وجزء كبير من الطائفيات اندحر لصالح الهم الوطني الذي يحتاج إلى الكثير، لأن ما تُعده المطابخ المشبوهة يشكل خطرًا وطنيًا، وعربيًا، وإقليميًا، وما زالت الجبهة ساحة للاحتدام؛
ولكن شخصيًا مطمئن على العراق الواحد المتآخي، لاسيما بعد سلسلة من الأحداث.
ولابد أن أذكر أن كل ما كتبت، شعرًا، أو سردًا، مواقف كانت «العراقية» أولويتها...مع وجوب استحداث الحس الوطني بالمشاركين، وكان مؤلمًا أن يجد المسيحيون والمندائيون، واليزيديون، وسواهم أوطانًا بديلة، من غير أن نحتضنهم ونحميهم حتى كمؤسسة عائلية وشعبية... حضن المواطنة.
* ما نصيحتك للجيل الجديد من المبدعين؟
ـــ نصيحتي لي وللكبار وللشباب على حد سواء:  لا ثقافة، ولا كتابة، ولا إبداع من غير القراءة.
القراءة تراجعت كثيرًا، لذلك نجد وهنًا في القصيدة، والقصة، والرواية، ونجد استسهالًا.
الترجمة ضعيفة بمؤسساتها، وما زلنا لم نتعرف جيدًا على الأدب الشريك، الكوردي، والتركماني، والآثوري، وسائر شركاء الوطن.
ما زلنا أقل البلدان ترجمة، ودعمًا للكتاب على المستوى العام يتراجع، ويشكل قلقًا عظيمًا.
أخاف من هذه الأمية جدًا على وطني.
 * ما مشروعاتك الأدبية المؤجلة؟
ـــ مشروعاتي المتلكئة من أربعين عامًا، كم من الشعر بعموده، وتفعيلته، ونثره، فضلًا عن الرواية التي لم تكتمل، ولا أملك من المال ما يجعلني أنشرها بشكل أنيق. أنا مع الكتاب الذي يخرج أنيقًا، جيد الإخراج...
أتمنى أن أوفق في نشرها وهي كثيرة، والوضع المؤسسي مريض، والوضع القرائي في الإنعاش، لذلك كهواة لنا إصرار عجيب على أن نبقى ونكتب، وسأفعل حتى آخر نبضة لأني أراه همًا وجوديًا، ووطنيًا.
* ما رأيك ان نقفل باب الهموم لنودعك بأحسن الاماني ؟
ــ شكرا لكم، وألف شكر، وآمل أن وفقت في التعبير والإجابات .


تابعنا على
تصميم وتطوير