كان السياسي البارز فائق السامرائي سفيراً للعراق في القاهرة أعوام الخمسينيات ومن كبار القوميين العرب. يومها كان يقول: إن عشر سنوات تكفي لإعلان الوحدة العربية برئيس عربي واحد على قلب عربي واحد، من محيطها الهادر إلى خليجها الثائر!.
بينما كان النائب والوزير اللبناني إميل البستاني أقلّ تفاؤلاً. كان يقول إن برلماناً يجمع العرب على كلمة سواء وقلب خافق بالحنين إلى سوق عكاظ من دون جواز سفر يحتاج إلى عشرين سنة ليس أكثر!.
لكن الشاعر الأديب ورئيس وزراء السودان محمد أحمد محجوب كان أقلَّ تشاؤماً. كان يقول إننا لن ننتظر أكثر من خمس عشرة سنة فقط حتى نعيش في دولة الولايات العربية المتحدة!.
في ذلك الوقت كانت السيدة أم كلثوم من أبطال الوحدة العاطفية بين العرب بعد أن استحالت عليهم الوحدة السياسية. كانت تغنّي أغاني الحب وقصائد شعراء الغزل فتحظى بمليون قبلة على الهواء من عشاق الشعب العربي.
ولولا أن العناق لا يحلُّ مشكلة، فنحن العرب أكثر الناس نذوب في العناق بالأحضان، ونطبع القبلات فوق الخدود، ونتغنّى بالقلوب الخوافق.
وفي الشعر العربي دواوين كاملة تتحدث عن عناق اللؤلؤ على صدور الجميلات، وتقبيل شفاه الأرض من تحت أقدام الحبيبات، ولثم الأحزان على الجدران، أو كما قال امرؤ القيس: ألا عِمْ صباحاً أيُّها الطللُ البالي!.
وكان عبد الحليم حافظ من أبطال هذه الوحدة في أغنيته الشهيرة «وطني حبيبي الوطن الأكبر»، وسيد مكاوي في أغنيته «الأرض بتتكلم عربي»، وعبد الوهاب في «أخي جاوز الظالمون المدى».. ومع هذه الأغاني كلها فإننا لم نسترجع شبراً واحداً من أرض فلسطين التي ملأنا بها الهواء صياحاً وهتافاً!.
صرنا نستحي أن ننظر إلى الخريطة. سقطت الخريطة كما سقط القناع الأخير. ترجَّلت الفرسان عن جيادها، ونامت السيوف في أغمادها، وتنازلت الرماح غير العوالي، وتنافست المشيخات على الزعامات، واختلفت على الديَّات، وسال دم أبناء العمومة والخؤولة حتى قال قائلهم:
إذا احتربَتْ يوماً ففاضتْ دماؤها
تذكَّرت القربى ففاضتْ دموعُهـا!.
ومنذ عام ونيف وبينما يغرق فلاسفة الهزيمة في بحر من العدم تغرق غزة في بحر من الدم، وتطلب النجدة من تحت الركام، وتدري أن ألف ألف صرخة انطلقت من أشلائها لم تعد تلامس صرخة المعتصم!.
وإذا كان العرب في الجاهلية يُسمّون يوم الجمعة يوم العروبة. فلقد أضحت هذه العروبة وأخواتها من ذكريات الجاهلية وميراثها.. أهل العروبة غرباء الدار!.