مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدأ العالم يشهد تحولاً في الديناميكيات السياسية والاقتصادية الدولية، بما في ذلك الدور الأميركي في العالم. ترامب، المعروف بصفاته وشخصيته التجارية، قرر أن يعيد رسم خريطة العلاقات الدولية، مستندًا إلى عقيدته الخاصة التي تمزج بين البراغماتية السياسية، الميركنتيلية الاقتصادية، والواقعية الدولية. ولعل أحد المفاهيم الأساسية في الميركنتيلية هو أن الثروة الوطنية ليست مجرد تراكم للموارد المادية، ولكنها أيضًا تعني أن البلاد يجب أن تدير اقتصادها بطريقة تضمن أن الأموال لا تخرج منها، بل تبقى داخل الاقتصاد الوطني. لذلك، كان الميركنتليون يدعون إلى فرض رسوم جمركية على الواردات لتنظيم السوق الداخلي وحماية الصناعات الوطنية، بينما يعزز الصادرات من خلال السياسات التجارية الملائمة. ومن خلال هذه العقيدة، سعى ترامب إلى تحقيق مصلحة أميركا أولاً، في وقت كانت فيه العوامل الجيوسياسية والاقتصادية تتشابك بشكل معقد في منطقة الشرق الأوسط.
لم يقتصر ترامب في ممارساته السياسية على مبدأ “أميركا أولاً”، بل عمل على تحويله إلى عقيدة سياسية قائمة على حساب دقيق للمكاسب والخسائر. براغماتية ترامب قامت على أسس قوية من المصلحة الوطنية التي تتعامل مع القضايا الدولية وفقًا للظروف الراهنة وقوى المصالح الدولية، مما جعله يسعى إلى تحقيق أكبر قدر من الربح من خلال القرارات التي كان يتخذها. كانت السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترامب ترتكز على نهج البراغماتية التي توازن بين الفائدة قصيرة المدى والهدف بعيد المدى.
لقد جعل ترامب من أمريكا منتجًا وصادراتها في صدارة أولوياته. كما دعا إلى فرض رسوم جمركية على الواردات، وهو إجراء يهدف إلى تقليل التبعية للدول الأخرى وزيادة دخل الخزينة الأميركية. ورغم اعتراضات الحلفاء، استمر ترامب في هذا النهج، معتبرًا أن المصلحة الأميركية فوق أي اعتبار آخر.
اللافت في شخصية ترامب هو سعيه المستمر لدمج شخصيته التجارية مع السياسة الدولية. فترامب، الذي ارتبطت سيرته الذاتية بمجال العقارات والتجارة، كان لا يغادر أي لقاء دولي أو اتصال دون التأكيد على مفاهيم “التجارة الموسعة”. في كل خطوة كانت تُتخذ على الصعيد السياسي، كانت التجارة بمثابة العصب الأساسي لرؤيته في التعامل مع القضايا الدولية. وبالطبع، تمثل هذه العقلية التجارية أيضًا في طريقة تعاطيه مع حلفائه، حيث دفعهم إلى التزام المساهمة في صفقات ضخمة تُدر على الولايات المتحدة فوائد اقتصادية كبيرة.
ليس غريبًا أن يكون ترامب قد جعل منطقة الشرق الأوسط - وبالتحديد دول الخليج - نقطة انطلاق في زيارته الخارجية الأولى، والتي عاد منها بحوالي أربعة تريليونات دولار، محققًا بذلك انتعاشًا كبيرًا للاقتصاد الأميركي. هذا النهج الذي يربط السياسة بالاقتصاد كان له انعكاسات في تحركات ترامب، سواء على المستوى العسكري أو الدبلوماسي، ليكون بذلك قد قدّم “السلام بالقوة” مع ضمان تلبية الاحتياجات الاقتصادية.
الأمر الذي يتضح من سياسات ترامب هو أن الرئيس الجمهوري يسعى إلى نقل الحزب الجمهوري من إرث الرئيس الأسبق رونالد ريغان إلى “المبادئ الترامبية” الشعبوية الجديدة. ترامب لا يسعى فقط إلى تسجيل اسمه بين عظماء التاريخ الأميركي، بل هو يسعى أيضًا إلى تغيير شكل الحزب الجمهوري بشكل جوهري، ليجعل من المبادئ الترامبية الأساس الذي يُبنى عليه مستقبل السياسة الأميركية.
ترامب لم يكتفِ بتبني سياسات تختلف عن سابقيه في الحزب الجمهوري، بل يعمل على ترسيخ أفكاره في الفكر السياسي الأميركي بحيث تصبح الأساس الذي تُبنى عليه السّياسات الخارجيّة والداخلية على حد سواء. وهذا التحول يمكن أن يؤثر في شكل السياسة الأميركية لعقود مقبلة، كما قد يضع ملامح جديدة للهيمنة الأميركية على الساحة الدولية.
ترامب، مع كل سياساته المثيرة للجدل والتي تختلف عن سابقيه، قد عمل على تحويل السياسة الأميركية من مجرد مصالح متمحورة حول القوى الكبرى إلى مصلحة محورية محكومة بقوة الاقتصاد والجيوسياسة، وهذا التوجه قد يترك بصماته على السياسة الدولية لعقود قادمة، مغيرًا بذلك كل المفاهيم التي كان يعرفها العالم عن السياسة الدولية، ليظل التساؤل قائمًا: إلى أي مدى ستستمر تلك السياسات في تحقيق مصلحة أميركا؟