في هذا الحوار الخاص مع الفنان التشكيلي العراقي عاصم الأمير، نغوص في أعماق تجربته الفنية الطويلة، والتي بدأت منذ أواخر الستينيات، لتتشعب عبر مراحل متعددة من التأمل، والمواجهة، والتجريب. تحدثنا معه عن البدايات، والتأثيرات، وجماعة الأربعة، وتحولات تجربته بين الرمزية والإشارات وفنون الأطفال، كما تطرقنا إلى دور الفن في المجتمع وموقعه في المشهد العراقي والعربي، ليس هذا فقط بل كان حوارنا شاملا عن مسيرته وآرائه ولكي نطلع على تفاصيل الحوار كاملا بدنا الحوار بالسؤال التقليدي :
* البدايات لطفاً؟
ــ كانت انطلاقتي مع أواخر الستينات من القرن الماضي. كنا نعيش في ناحية الدغارة، وهناك تهيأت لي فرصة ثمينة بفضل أستاذ التربية الفنية «رسول عبد الحسين»، وأيضًا أخي الراحل «راسم الأعسم»، وهو قاص ومترجم. هذان الاسمان كان لهما دور كبير في تشجيعي، خاصة وأنني كنت أمتلك خلفية قوية في فن التخطيط، حيث رسمت البورتريه واللاندسكيب وبعض موضوعات الحياة الجامدة (الستيل لايف).
منذ تلك اللحظات المبكرة شعرت أن هناك موهبة قابلة للنمو، ما دفعني للاستمرار. كنت أزور معهد الفنون الجميلة في بغداد باستمرار، لكنني لم أتقدم للقبول فيه لأسباب معينة. أكملت دراستي الإعدادية، ثم التحقت بكلية الفنون الجميلة، ومن هناك بدأت الرحلة الطويلة من التحولات الفنية.
* كيف تصف مسيرتك الفنية ومشاركاتك في المعارض؟
ــ إذا تتبعنا مساري الفني من أواخر السبعينات وحتى أوائل الثمانينات، فسنجد أنني شاركت في العديد من الفعاليات، كان أبرزها تشكيل «جماعة الأربعة». بدأنا بمعارض مشتركة مهمة، ثم معارض فردية، ثم مشاركات على المستوى الوطني والعربي والدولي.. شاركت بمئات الأعمال التي تكشف عن تطور نسقي وأسلوب متغير باستمرار.
في الثمانينيات، خلال خدمتي العسكرية في الفيلق الثالث بالبصرة، كنت أرسل أعمالي إلى جماعة الأربعة، وكنا نعرض في قاعة «الرواق» الشهيرة في بغداد.. أقمنا هناك خمسة أو ستة معارض، ثم انتقلنا إلى قاعة «حوار» في الوزيرية. كما أقيم لنا معرض تكريمي في «برج محمد بن راشد» بأبو ظبي، وكان بمثابة احتفاء بجماعة الأربعة والفن العراقي عموماً.
* كيف تطورت تجربتك الفنية من حيث الأسلوب والمضمون؟
ــ تجربتي مرت بمراحل واضحة. بدأت بسلسلة أعمال الحرب، ثم مزجت بين التصميم والرقش العربي الإسلامي، ثم دخلت مرحلة الرمزية والإشارية.
لاحقًا، تأثرت كثيرًا بفنون الأطفال، تلك التي تنطوي على خيال جريء وغير محدود. رأيت فيهم رسامين كبار يعلموننا الجرأة، فاستلهمت روحهم دون أن أستنسخ أعمالهم.. في أعمالي هناك أسلوب متنامٍ واضح، وجدل دائم بين الشكل والمعنى، عبر مئات اللوحات التي تنطوي على روح النمو والتطور.
* هل هناك فنانون أثروا في تجربتك الفنية؟
ــ نعم، هناك العديد من الفنانين أثّروا فيّ ليس بالضرورة من خلال أعمالهم المباشرة، بل من خلال روح التمرد والاقتحام.
مثلًا، خوان ميرو، على الرغم من أن أعمالي تختلف عنه، لكنني استفدت من قدرته على اختراق الفضاء التصويري.. وأيضًا الفنان فولكلي، الذي وصفه بيكاسو بأنه «نابليون باسكال»، جمع بين الصرامة الرياضية وروح الشعر والموسيقى، ونقل اللوحة إلى أفق موسيقي.
في العراق، كانت لي علاقة متينة مع الراحل شاكر حسن آل سعيد، تخللتها حوارات ومماحكات صحفية، وأنا من المعجبين بتجربته، وكذلك بجواد سليم.
* برأيك، ما دور الفن في المجتمعات، خصوصًا في السياق العراقي والعربي؟
ــ الفن بجميع أنواعه، سواء كانت فنون مكانية كالرسم والنحت، أو زمانية كالموسيقى والشعر، هو قوة ناعمة مؤثرة في الحراك الاجتماعي.
* كيف ترى دور الفن في التأثير على الحراك الاجتماعي والتاريخي؟
ـــ بلا شك، الفن بكل أجناسه، سواء كانت الفنون الزمانية مثل الشعر والموسيقى والرقص، أو الفنون المكانية مثل النحت والرسم والتصميم، يلعب دورًا أساسيًا كقوة ناعمة في التأثير على الحراك الاجتماعي. لو عدنا إلى أوروبا، مثلًا، نجد أن التحولات الكبرى بدأت منذ العصر اللاتيني في القرن الرابع قبل الميلاد، مرورًا بعصر النهضة، ثم انهيارات ما بعد الرومانسية، وصولًا إلى الحداثة في الانطباعية والسريالية في عشرينات القرن الماضي. كل هذه الموجات الفنية ساهمت في ترسيخ قيم الجمال، المحبة، السلام، والحضارة.
* ما العلاقة بين الفن والسياسة في التجربة الأوروبية؟
ـ أوروبا جربت الدين وخاضت حروبًا طويلة، منها الحرب الإيقونية التي امتدت لعشرات السنين ووصلت إلى تخوم الأناضول. بعد إخفاق التجربة الدينية، استبدلوا الدين بالسياسة، وأنتجوا أنظمة على أساس المواطنة، ونجحوا كثيرًا في بناء الدول. الفن كان دائمًا مرافقًا لهذا التحول، من خلال المتاحف، صالات العرض، المنتديات، الأفلام، المسارح، والنحت الذي خرج من القصور إلى الشوارع منذ أيام برنيني وواتو. كل ذلك شكل موازيًا سياسيًا وثقافيًا في بناء الهوية الأوروبية الحديثة.
* وماذا عن الفن في المنطقة العربية، وتحديدًا العراق؟
ـــ في المنطقة العربية، وبالذات في العراق، الوضع أكثر تعقيدًا , نحن نعاني من إشكاليات بنيوية عميقة، سبق أن تحدث عنها معروف الرصافي في ثلاثينيات القرن الماضي.
* هل ترى أن الفنون العراقية قادرة على التغيير رغم الظروف؟
ـــ نعم، رغم كل شيء، ساهمت الفنون في العراق، لكنها خضعت أيضًا للتنازع السياسي، وكان تأثيرها محدودًا. كثير من الفنانين هاجروا، سواء في المسرح أو السينما أو الفنون التشكيلية. ومع ذلك، هناك أمل كبير في بعض الفنانين الذين يسعون لخلق صورة إيجابية للفن العراقي، .
* هل يمكن للفن أن يكون وسيلة للمصالحة وبناء المستقبل في العراق؟
ـــ بالتأكيد، الفن يمثل بوابة حضارية كبرى. هو ليس مجرد تعبير جمالي، بل وسيلة لتشكيل الذوق العام، ولتكريس قيم المحبة والسلام. إذا ما توفرت بيئة حاضنة للفن في العراق، وتم تحييده عن النزاعات السياسية، فسيكون قادرًا على بناء وعي جمعي جديد يساهم في المصالحة المجتمعية وتجاوز الفوضى التي خلفها الاحتلال والفشل السياسي.
* كيف ترون التحولات التي شهدها الفن في أوروبا وأثرها على ذوق المجتمعات؟
ــ الفن في أوروبا مرّ بتحولات كبيرة، خصوصًا في عشرينيات القرن الماضي حين تراجعت الموجات السريالية. هذه الحركات الفنية لم تكن عابرة، بل مثّلت قوى رمزية وإصلاحية للذوق العام، وساهمت في تكريس قيم الجمال، الجلال، المحبة، والسلام، وهي قيم حضارية بامتياز.
* هل يمكن القول إن هذه التحولات لعبت دورًا موازيًا للسياسة في بناء أوروبا الحديثة؟
ــ بالتأكيد. أوروبا، بعد أن جرّبت الدين وفشلت، خاضت حروبًا طويلة مثل الحرب الإيقونية الشهيرة، ثم انتقلت إلى تأسيس دول على أسس سياسية ومدنية. وكان للفن دور محوري في هذه المرحلة، عبر المتاحف، وصالات العرض، والمسرح، والسينما، وحتى النحت الذي خرج من الإطار المغلق إلى الفضاء العام منذ عصر برنيني، وصولًا إلى واتو وغيرهم. الفن كان دومًا حاضرًا كقوة ناعمة موازية للسياسة.
* كيف تقيّمون وضع الفن في العراق مقارنةً بهذه التجربة الأوروبية؟
ــ الوضع مختلف تمامًا. في العراق، التنازع الإقليمي والدولي، والتفكك المجتمعي، كلها عوامل أثرت سلبًا .
* ما نصيحتكم للشباب المهتمين بالفن؟
ــ لا أريد أن أبدو ناصحًا، لكن الأهم هو الإخلاص للتجربة، والتمتع بالموهبة. ممارسة الفن دون موهبة لا تؤدي إلى شيء. كما أن المتابعة لتجارب عربية وعالمية، والممارسة المستمرة، وتطوير الرؤية من أساسيات النجاح. والحمد لله كثير من الشباب الذين تتلمذوا عليّ أصبحوا اليوم أسماء مهمة في الساحة الفنية، بل وفي العالم العربي.
* ذكرتم سابقًا أن لديكم كتابًا مهمًا يضم 40 تجربة عراقية، هل تحدثنا عنه؟
ــ صحيح، لدي كتاب يضم 40 تجربة عراقية، تبنّته جمعية التشكيليين بعد أن أصدرت مجموعة كتب مهمة لفنانين مثل سالم الدباغ، محمد علي شاكر، حامد سعيد، إسماعيل خياط، وآرداش كاكافيان. يضم الكتاب تجارب لفنانين داخل العراق وخارجه، وكلهم ضحايا وأبطال في آنٍ واحد. أعتقد أن هذا الكتاب سيكون من أهم الإصدارات القادمة بعد انتخابات الجمعية.
* سمعنا أن هناك كتابًا آخر تعمل عليه، لكنه محاط بسرية؟
ــ نعم، هو كتاب مهم جدًا، نحاول أن نحوطه بتكتم لأنه سيكون حدثًا ثقافيًا كبيرًا. من المقرر طباعته في باريس، ويتعلق بالراحل الكبير شاكر حسن آل سعيد، وأنا فخور بتكليفي بهذا العمل.
* وماذا عن تجربتك الشخصية مع النحت؟
ــ لي تجارب متواضعة في النحت، ولدي إحساس واضح بالكتلة حتى في أعمالي. أنجزت حوالي 12 عملًا من حجر الكلسي جلبه لي أحد تلاميذي من بادية السماوة. لكنها كانت أعمالًا ثقيلة وصعبة التنفيذ. الآن أفكر في استخدام مواد أخف مثل عجائن كارتون البيض مع الغراء، والتي تعطي إحساسًا بالحجر، لكنها في الواقع خفيفة وتوفر وهمًا بصريًا جميلًا. لدي أيضًا عمل نحتي في مدينة الحلة حول الحرية والسلام.
* كيف ترى واقع الحركة التشكيلية بعد الاحتلال الأمريكي وحتى اليوم؟
ــ نحن نمر بمرحلة انتقالية طويلة بلا أفق واضح للاستقرار، ما يؤثر سلبًا على الحركة الفنية. لا توجد برامج فاعلة من وزارة الثقافة، ولا معارض دولية، ولا حتى متحف وطني! العراق بلد حضاري عظيم لكنه بلا متحف، بينما هناك محميات عربية تملك متاحف مذهلة. نحتاج إلى إرادة حقيقية لبناء جاليريات وصالات عرض تليق بالفن العراقي، لأن هذا الفن لا يموت، ويستحق أن يبقى في الواجهة دائمًا.
* بعد هجرة عدد من الفنانين العراقيين إلى أوروبا، كيف ترى تأثير هذه الهجرة على مشاريعهم الفنية؟
ــ الحقيقة، أستطيع القول إن عددًا غير قليل من الفنانين العراقيين الذين هاجروا إلى أوروبا، تمكنوا من التكيف مع التحولات والحركات والكشوفات الفنية التي جرت هناك. لقد استطاعوا أن يسايروا مشروع فنون ما بعد الحداثة. من بين هؤلاء الفنانين: علي النجار، ضياء العزاوي، علي جبار، وأسماء أخرى مثل غسان غائب وهاشم حنون. هؤلاء نجحوا في اختراق حدود المحلية، وانطلقوا نحو فضاءات إقليمية وعالمية، وهذا يبعث الأمل فعلًا.
* هل لا تزال تعتمد على السكتشات الأولية في مشاريعك الفنية؟
ــ في بداياتي عندما كنت في أكاديمية الفنون، كنت أعتمد كثيرًا على السكتشات والدراسات الأولية لتخطيط اللوحة. لكن بعد أكثر من خمسين عامًا من التجربة المستمرة، تخلّيت عن هذه العادة تمامًا. الآن أمارس الرسم بروح الارتجال، أعتبره جوهريًا، فهو يجلب معه لحظة شعورية آنية مليئة بالعاطفة. اللوحة اليوم تنساب كما ينساب النهر، بينما غياب الممارسة اليومية يجعل الرؤية تتلكأ، وعندها يعود الفنان للسكتش ليستذكر. أما الفنان المستمر في عمله، والذي يركب قلقه اليومي، فبإمكانه التخلي عن السكتش والاعتماد على اللحظة بكل ما تحمله من طاقة شعورية.
* كيف تنظر إلى تأثير المدارس الفنية على تجربتك الخاصة؟
ــ المدارس الفنية كانت حاضرة، ولا شك أنها لعبت دورًا مهمًا. لكنني دائمًا حاولت أن أبتدع رؤيتي الخاصة، وهذا أمر يتطلب مسؤولية كبيرة.
* ما أهمية الفردية في تجربتك الفنية؟
ــ الشخصية الفردية عامل أساسي لا غنى عنه. بدونها تضيع التجربة وتضعف قدرتها على التأثير. أنا شخصيًا أحرص على تنمية هذا الإحساس بالفردية، فهي طاقة يجب أن تُوجّه بالمسار الصحيح. وهي تتضمن ثنائية الذات والموضوع، وهي ثنائية فلسفية وفنية غنية. ومن خلال هذا التوازن يمكن للفنان أن يتلاعب بالحدث والمشاعر، وهذه المنطقة – التي تجمع بين الجذب والتوتر – هي ما يصنع المعجزات في الفن ويؤسس الروح الفردية العميقة فيه.
* هل حصدت جوائز تقديرية خلال مسيرتك الفنية؟
ــ نعم، حصلت على العديد من الجوائز، منها جائزة التحكيم الخاص من دائرة الفنون في بغداد، وجائزة الإبداع مرتين: الأولى عن أعمالي الفنية، والثانية عن كتاباتي في النقد التشكيلي. كما حصلت على جائزة اتحاد التشكيليين العرب، والتي منحت لي من قِبل الناقد الكبير الراحل جبر إبراهيم جبره، ووقعها فنانون مهمون مثل ندى العطار، إسماعيل فتاح، عامر العبيدي وآخرون. وهناك أيضًا شهادات تقدير وجوائز كثيرة من داخل العراق وخارجه.