بكى جذع النخلة حنيناً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده. ويُروى أنَّ رجلاً قدُمَ إلى النبي من مكة إلى المدينة فسأله: كيف تركت مكة؟ فوصفها له فاغرورقت عيناه صلى الله عليه وسلم حنيناً إلى بلده.
وفي مكة المكرمة تسأل: أين وُلِدَ النبي محمد؟ فيشيرون إلى بيت تحول إلى مكتبة قبالة المسجد الحرام. يقولون لك: هنا وِلِدَ النبي.
وشاعرنا القديم يقول:
أشوقاً ولمَّا تمضِ في البُعد ليلةٌ
فكيفَ إذا سارَ المطيُّ بنا عشرا؟
والشوق حنين والحنين أعلى مراتب الشوق. واليوم يوم عرفة. ومن معاني هذا اليوم العظيم هو الشوق إلى الله. وفي مكة المكرمة تجد ملايين الأكف ممدودة بالدعاء. ملايين القلوب تخفق في شوق. وبذكريات تشدك بالحنين إلى كل مسجد هناك. وكل جبل. وكل سفح. وكل بيت. وكل ركن. وكل نقش. وكل رسم. وكل موطئ قدم. وكل أثر. وأنت تتأمل ما فعلت بها الأيام، فلا تجد منها إلا أطلالاً دارسة.
فأين دار خديجة التي نزل فيها جبريل؟ وأين دار أم هانئ؟ وأين الدار التي كان النبي فيها ليلة الإسراء؟ وأين دار الأرقم حين كان يجلس صلى الله عليه وسلم مع أصحابه والإسلام في أول عهده؟ وأين الديار التي عفت محلَّها فمقامها؟!.
ولقد مرَّ زمن على أهل مكة كانوا يقولون: ما أقربَ السماء من الأرض!.
ثمّ مرَّت عليهم أعوامٌ من الحزن بعد وفاة النبي كانوا لشدة حنينهم يجهشون ببكاء عميق. إنهم يبكون بقلوبهم لأنّ خبر السماء انقطع عن الأرض.
ومن أجمل قصص الحنين حين تتأمّل منطق الطير في جوار الكعبة وأدب الحمام المكي. أينما تلتفت تجد أمامك حمامة ووراءك حمامة.. فتراه طوال النهار في طواف دائم حول الكعبة لا يعلو عليها ولا يتعدّى حدود الطواف.
وفي ليلة العيد تحنُّ إلى تذكارات قديمة متجددة. تشتاق أن تزور قبر أمك وأبيك وأخيك، فتقبِّل الشواهد كأنك تُقبِّل خدود الحبيب. تبحث عن أعزاء لم تبق منهم سوى صور على الحيطان، فتتذكر قول الأعشى:
ألا ليــتَ أيّــام القـلاتِ وشـــارعٍ..
رجعنَ لنا ثمّ انقضى العيشُ أجمعُ
إنه أدب الحنين لكل الذي كان وراح وضاع وغاب وتلاشى ولن يعود.. ومن يشرب بحراً من الأكدار لا يقول إنه شرب ماء!.
وهنيئاً لنا بعيد القربان، فلعلَّ في القربان بشيراً يُغني عن التذكير.. والبشرى كالذكرى تنفع المؤمنين!.