رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير
مؤيد اللامي
أول صحيفة صدرت في العراق عام 1869 م
يومية سياسية عامة
تصدر عن نقابة الصحفيين العراقيين
رقم الاعتماد في نقابة الصحفيين (1)
تعلمت من الكتابة أعمق مما تعلمته من القراءة


المشاهدات 2878
تاريخ الإضافة 2025/06/01 - 9:53 PM
آخر تحديث 2025/06/30 - 3:20 AM

 لا أزال، منذ بدأت، أتهيّبُ الكتابة كثيراً، ومع كل محاولة أتهرب من جديد، وغالباً ما ألتمس الأعذار بانشغالي، أو بندرة ما يتوافر لدي من وقت فائض اُخصصه للكتابة، وربما هربت إلى حيل نفسية، تنقذني من هلع الكتابة. كنت أحسب أني مصاب بشلل الإرادة، وأني أتفرد بين غالبية عظمى بذلك، غير أني اكتشفت أن معظم الكتّاب يعانون من وجع الكتابة. ولعل من أقسى توصيفات هذا الهلع والتهيب ما تحدثتْ به الأديبة آني إيرنو الفائزة بجائزة نوبل للأدب عام 2022، من أن «الكتابة كخنجر» ، أو قول إرنست همنغواي عندما سُئل عن أفضل تدريب فكري لمن يريد أن يصبح كاتباً: «إن عليه أن يذهب ويشنق نفسه، لأنه سيجد أن الكتابة صعبة إلى درجة الاستحالة. ثم ينزل عن المشنقة، ويفرض هو على نفسه أن يكتب على أفضل ما يستطيع للبقية الباقية من عمره. عندها ستكون لديه قصة شنقه كبداية» . يبدو أن هروبي وغيري من مشقّة الوقوف على هذه الحرفة يكشف عن شعور غاطس في الأعماق، من خشية الفشل في إنتاج نصٍّ لا يرضي المتلقّين ويفوز باعترافهم، مثلما يخشى الفشل كلُّ شخص يباشر عملاً نوعياً في حياته، فيحترز ويحذر كثيرًا، قبل أن يقدم على أية خطوة في إنجازه.
  لا شكَّ أن طلب الكمال، والرغبة بظفر منجز فائق الجودة، وكذلك المبالغة بالتهيب من الوقوع في مغامرة الأفعال الصعبة، يصبح أحياناً عائقاً يمنعنا من الاقدام على الفعل، ويقعدنا عن المباشرة بالعمل، أو يعطل الإصرار في منتصف الطريق على المضي حتى جني الثمرة. في حالة كهذه لا ينجح إلا أولئك المغامرون، ممن لا يتهيبون الاقتحام، ولا يترددون في الاقدام على العمل، مهما كان شاقًا وخطيرًا، فإن الأعمال الخطيرة لا تنجزها إلا الهمم والعزائم الكبيرة. ومع ذلك فإن طريقتي في الكتابة منهكة، الكتابة تعذبني وتستنزفني، وربما نقلتني فجأة إلى منطقة الخطر. 
  بدأت تمارينُ الكتابة في المرحلة الثانوية. لم تتشكل لغتي إلا بمشقة بالغة، ولم تنضج وتصطبغ ببصمتها المميزة إلا بعد سنوات من التمارين المتواصلة المملة. أخيرًا اغتنت لغةُ كتابتي بمعجمها، وصارت تفرض عليّ نوعَ الكلمات وأسلوبَ التعبير وبناء النص. تؤثر وتتأثر هذه اللغةُ بطريقة تفكيري، كأني وقعتُ في أسرها، ولم أعد قادرًا على انتزاع نفسي منها. وعندما يكرّر بعضُ القراء الطلبَ بأن أكتب بلغةٍ بديلة أعجز عن تلبية رغبتهم، بعد أن وقعتُ في شباك الألفة مع اسلوب خاص. لم أدعِ يومًا أن الأفكارَ الواردة في كتاباتي كلها مبتكرة، لم يبلغها أحدٌ من قبل. كتاباتي خلاصةُ مطالعات بدأت في مرحلة مبكرة من حياتي لم ولن تتوقف، ولازالت، كما كانت أول مرة، خلاصة عواصف ذهنية وتأملات فرضها عليّ عقلي الذي لا يكّف عن التفكير، وأوقدتها مشاعري وانفعالاتي، وما ترسّب بأعماقي من جراح محطات الحياة المتنوعة، مما لا أراه ولا أدرك طريقةَ تأثيره في فهمي. 
 الكتابةُ داءٌ ودواء. قبل الكتابة أقلق، حين أفرغ منها أهدأ، بعد النشر أسكن، وأخيرًا أنسى ما كتبتُ لحظة أنشغل بما هو جديد. وإن كنتُ لا أغادره نهائيًا، ربما تستجد رؤيةٌ موازية أو مضادّة لرؤيتي؛ فأكرر العودة إلى النص باستمرار إضافةً أو حذفًا أو كليهما، من غير أن أتعجل النشر، بل أتركه ريثما يتخلق على مراحل ويرتسم بصورة ترضيني. ذلك الحال بعد نشره؛ أظل أطارده في طبعات لاحقة، لأهذبه وأستبعد وهنه ما أمكنني ذلك. لا أرى كتابتي نصًا مقدسًا،كما يرى بعضُ الكتّاب كتاباتِهم، ولا أزال ينتابني وجل وقلق من مصير هذه الكتابة ومآلاتها. 
  لا أستطيع مغادرةَ النصّ الذي أنشغل به، أخضع على الدوام لضغطٍ نفسي يكرهني على العودة للنظر فيه بين حين وآخر، ولا ينقذني منه أحيانًا إلا النشر. اللغة كأداة هي ما يرهقني في الكتابة أكثر من الفكرة، أعيد تحريرَ النصّ عدة مرات. ‏حين أكتب أمارس وظيفةً تشبه وظيفةَ المهندس المعماري، الذي لا يغفل عن وجه البناء الجمالي. ‏أغلب الأحيان اقتنص للكتابة لحظات أجد فيها المعاني حاضرة أو محضرة كإلهام، ‏فقد يرهقني العثورُ على الكلمات المناسبة للسياق ‏من القاموس اللغوي المخزن في ذاكرتي، وتتعسر أحياناً ولادةُ الكلمة في محاولاتي فألجأ إلى خميرة قواميس اللغة ومعاجمها.
 ليست هناك لغةٌ مكتفية بذاتها، إذا اتسع أفقُ المعاني توارت الكلماتُ خلف الرموز والاستعارات والمجازات. أعرف أن كتابتي لا تلبث أن تبدو لي أحياناً ناقصةً وواهنة بنحو ما من أفكارها وكلماتها وعباراتها، مهما حاولتُ ترميمها وتنقيتها، وذلك ما يحثّني على إعادةِ النظر فيها وتعدد محاولات تحريرها على الدوام. اللايقين حالة تستولي عليّ حين أكتب، ويعيدني إلى تأمل ما تتضمنه من مفاهيم وآراء ومواقف، فأعمد إلى غربلتها وتمحيصها مجدّدًا، واستبعاد ما ينكشف من هشاشتها واعوجاجها. وليس نادراً أن أعيد كتابةَ الفقرة مرات عديدة، أمعن النظرَ في لغتها، أحذف الكلمات الركيكة، أحرّرها من الفائض اللفظي الذي يستنزفُ طاقةَ المعنى وينهكه.
  أعرف أن الجملَ القصيرة أشدّ إيقاعًا من العبارات الطويلة، الكاتب المتمرّس يقتصد في الكلمات، ويكثّف النصَّ ما أمكنه ذلك. لاحظت أن بعضَ الكتاب يربك إيقاعَ النصّ بالإفراط في استعمال حروف العطف وأدوات الوصل والربط والاستئناف، وربما تظهر نصوصُه متلاصقةً مدمجة بلا حدود، وربما يجعل الكتابةَ سائلة؛ تغطي جملةٌ واحدة صفحة أو أكثر فيها. لا أزال أمتثل لشروط البراعة عبر الحضور في الإيجاز، فكل صفحة من الكتب الخالدة تختزل ألفَ صفحة، وكلُّ عبارة تضجّ بألف عبارة، وتتضمن كلُّ كلمة ألفَ كلمة مضمرة. الكتابةُ فنُّ الحذف والاختزال. 
  ما أريد تأكيده دائماً أن كلّ كتابة أنشرها مسودةٌ لصياغة ومراجعة لاحقتين. وهكذا تتوالد كتابةُ المسودات. الكتابُ الذي أنتهي منه لا أراه نهائيًا، إذ يتبعه تحرير مضاف وتنقيح ومراجعات متعدّدة قبل أن يبلغ عتبة دار النشر. بعد نشره تتحوّل هذه الطبعةُ إلى مسودة لطبعة لاحقة، وهكذا تتبقى كتاباتي مسوداتٍ مفتوحةً أعجز عن النظر إليها بوصفها نهائية، وكأني أحلم بكمال يعانده الاكتمال. ربما لا أصل للشعورِ باكتمال النصّ، ونقائه من الهشاشة والثغرات، وصفاء صوته، وقوة طاقة المعنى الذي يريد بلوغه، فيضطرني إلى أشواط تقويم وترميم وإثراء متعددة ومستمرة. وهذا ما يبرر، لي على الأقل، نوبات التردد عن نشره، والقلق حين صدوره، أو حتى الشعور بأنِّي قد خنتُ ذلك النصَّ المؤجل، أو خنتُ القرّاءَ ممن يتطلعون إلى أن يجدوا في كتابتي ما يبحثون عنه. 
  القارئ يبهجه الضوءُ بغضِّ النظر عن المصباح الذي يصدر منه. وأنا يهمني القارئ حين أكتب. أعرف ذائقة القارئ المحترف، وعدم إطاقته الكلمات المقعرة والعبارات المكرّرة والشعارات ‏المبتذلة لغةً ومضمونًا، لا أريد أن أخون مَن لولا دعمه واعترافه لنضبت لدي طاقةُ الكتابة. أحسب أن القارئ يتطلع إلى اكتشاف صورة الكاتب الحقيقية، وما يأمله في كتاباته. القارئ الذكي مولعٌ بكلِّ ما حجبناه عنه، ولو بادرنا للاعتراف بضعفنا البشري بشجاعة فربما لا نحتاج إلى دعاية أو ترويج لما نكتب. أكثرُ الكتابات المنشورة تخفي أكثرَ مما تعلن، وتبرّر أكثر مما تعترف، وتتكتم أكثر مما تبوح، وتموّه أكثر مما تصرّح، وتخادع أكثر مما تصدق، أجد بعضَ الكتًاب يتمرس بصناعة الأقنعة، وهو يحاول حجبَ تضخم ذاته وراء تلك الأقنعة.
  مضافًا إلى خوفي من ممارسة الكتابة، كنتُ أخاف في البداية من عرض ما أكتب على الآخرين، وحين امتلكتُ شيئًا من الجرأة بعد مدة فقدّمتُ ما أكتب لبعض الخبراء، كنتُ أحذر بشدّة من أيِّ نقد، حتى أدركتُ لاحقًا أن استمرارَ هذا الحذر سيعيقني من الإقدام على النشر، وربما يعجزني عن خوض مغامرة الكتابة. اقتنعت أنه يمكنني التخفيف من ذلك وخفضه بعد ترويض نفسي على الاعترافِ بأخطائي وضعفي، والإعلانِ عن استعدادي للتعلّم والإصغاء لحكمة وخبرة الآخرين، والإصرارِ على المضيّ في تمارين الكتابة وإعادة الكتابة. رغم أن أكثر الناس في مجتمعاتنا ينظرون إلى الاعتراف بالخطأ بوصفه فضيحة، استطعتُ بمشقة أن أمتلك الاستعدادَ للاعتراف بالخطأ الذي كان مُحرِجًا جدًا أول الأمر، لكنه عبر المران صار أقل إحراجًا. كلما أعلنتُ عن أخطائي قبل أن يعلنها غيري تخفّفتُ أكثر، واستطعتُ أن أجعل منجزي أكمل. جربتُ أن ليس هناك ما ينقذ الإنسانَ من عبء الشعور بالعجز وخوف الفشل إلا سبقه للبوح بفشله وإعلانه بأنه فشل في محاولاته الأولى والثانية والثالثة وهكذا. أسعى أن تتضمن كتاباتي بوحًا بأخطائي ووهني وهشاشتي ما أمكنني ذلك في مجتمعٍ يسيء تفسيرَ ذلك. 
الكتابة ليست عملاً فردياً بحتا، كل كتابة حقيقية تختزل سلسلةً طويلة من قراءة كتب متنوعة، وكلَّ ما تشبّع به وتمثّله وعيُ الكاتب، وترسّب في لاوعيه، لا يتكون الكاتبُ إلا بعد أن يقرأ كلَّ شيءٍ وينسى معظمَ ما قرأ. الكتابة منجز مشترك، تنصهر فيه عناصرُ مختلفة لأعمال طالعها الكاتبُ فتولّدت منها مادة مركّبة تتكلم بلغته وتعبّر عن تمثله لها وتفاعلاته معها، ويتعرّف عليها القارىء كنسخة من صورته الصوتية.
 في كلّ نصّ ترقد طبقاتٌ من النصوص، في كلّ نصٍّ تتكلم نصوصٌ متنوعة تحيل إلى معجمِ الكاتب اللغوي ومرجعياتِه ورؤيتِه للعالم، وتتكشّف فيه ثقافتُه وما أنتجته قراءاتُه وتفكيرُه وتأملاتُه. في كلّ نصّ ثري نستمع لصوتٍ تنصهر فيه ألحان عدّة أجناس من الكتابة، لتتوحد، أخيراً، ألحانُها وكأنها نغمٌ واحد. الكاتب الجادّ يلاقي الجميع، ويتعلّم من الجميع، يلتقي بما هو مشتَرك إنساني، ويتعلّم من فرادة المتفرّد. 
كتاباتُ كلّ ِكاتب تغترف من نهرٍ واحد، بعضُها يغذّي بعضَها الآخر.كلُّ كاتبٍ يكتبُ كتابًا أساسيًا واحدًا، ما قبله تمارين وما بعده تنويعات. الكاتب الحقيقي تصنعه الكتابةُ بقدر ما يصنعها، وتعيد بناءَ ذاته من جنس ما يبنيها، مذكِّرةً بأن البناء بمواد هشّة يبني كاتبًا وكتابةً هشّين، البناء بمواد متينة يبني كاتبًا وكتابةً متينين. وبنحو لا يُدرك بسهولة فإن الكاتبُ الصبور يتعلّم من الكتابة أكثر مما يتعلم من القراءة، إذ يخرج بعد الفراغ من كلِّ تأليف أو تصنيف بوعي أعمق لذاته ولغيره، وبرؤيةٍ أشدّ وضوحًا للعالَم من حوله، تضع ذاتَه في سياق صيرورة وجودية تتغذّى بالكتابة وتغذّيها.‏‏ 
  الكتابة لدي تمارينٌ على وعي الحياة، عبر اكتشاف أسرار الذات، وما يخفيه الإنسان، وكيف أستطيع أن أنجو بنفسي من أهوال هوس الناس وصخب الحياة من حولي، وأربح سلامي الداخلي،‏‏ التحدي الذي يستفزني في الكتابة يؤلمني بقدر ما يعلّمني. علمتني الكتابة أعمق مما علمتني القراءة، مثلما علمني التعليم ما هو أثمن مما علمتني التلمذة. بعد الفراغ من كلِّ كتاب أخرج بوعي أعمق، وبرؤيةٍ أوضح للعالَم. ومن ذلك، أو بسببه، لم أجد نفسي خارجَ الكتابة منذ أكثر من 45 عًاما تقريبًا، على الرغم من أني أحبّ القراءةَ أكثر من الكتابة، وإن كنتُ أكتشف المزيدَ من الطبقات العميقة لذاتي، وأشعر كأني أعيد تشكيلَها من جديد بالكتابة. أكتب رحلتي الأبدية لاكتشافِ الذات واكتشافِ الناس من حولي، واكتشافِ أجمل تجليات الله في الوجود. أحاول تأملَ أسئلتي وإعادةَ النظر في إجاباتي، وتعميقَ البحث فيها والتعرّفَ على ثغراتها، والسعيَ للظفر بإجابات أكثف وأدقّ.


تابعنا على
تصميم وتطوير