في عمق قرية صغيرة منسية في العراق وُلدت قصة لا تشبه القصص، بل تشبه الأساطير التي تُروى لتلهم القلوب وتوقظ الإرادات بطلتها امرأة تُدعى “أمينة”، لم يكن لها في الحياة من حظ سوى الصبر، ولا من النصيب سوى المعاناة… لكنها حوّلت تلك المعاناة إلى قصة كفاح تنحني لها الجبال.
كانت البداية موجعة؛ إذ زُفّت أمينة إلى ابن خالتها وهي لا تزال في الثانية عشرة من عمرها، لم يكن زواجًا بل قرارًا فُرض عليها دون مشورة أو رضا سرعان ما تحولت حياتها الزوجية إلى سجن، تتقاسمه مع خالة قاسية وبنات لا يرحمن يمارسن عليها كل أشكال التعنيف النفسي والجسدي، فيما كان زوجها متواطئًا تارة وشريكًا مباشرًا في القسوة تارة أخرى.
ورغم إنجابها لستة أبناء خمس بنات وولد لم تكن الأمومة دربًا مفروشًا بالحنان، بل كان محاطًا بالفقر والحاجة غير أن أمينة، التي لم تعرف طعم الرفاه اختارت طريق المقاومة ليس بالصراخ أو الثورة بل بالتعليم جعلت من علم أبنائها معركتها النبيلة، واقتطعت من فقرها لشراء دفاترهم ومن صحتها لسداد أجور دروسهم، مؤمنة أن العلم وحده قادر على كسر القيود.
اليوم، تثمر تلك التضحية على هيئة نجاحات تملأ البيت نورًا: ابنها أصبح طبيبًا، وابنتها الكبرى صيدلانية، والثانية تدرس طب الأسنان، والثالثة في طريقها إلى كلية الهندسة، والصغيرة حصدت إعفاءً عامًا لتفوقها. أما البنت الأخيرة، فجمعت الذكاء بالحدس، وأصبحت أقرب لأمها من نفسها.
كل هذا لم يأتِ من فراغ كانت أمينة تخيط في السر فساتين الجيران تهرب من أعين زوجها وأهله تطرّز الأمل على ثياب النساء، وتصنع من الإبرة سلاحًا ضد الجوع والإهانة وحين حاولوا قطع الطريق على أحلام بناتها وقفت وحدها في وجه العاصفة فاتهموها في شرفها، كما يفعل الضعفاء حين يعجزون عن كسر القويات.
واليوم بعد سنوات من الصبر صار أبناؤها سورًا عاليًا يحيط بها، يسابقون الريح لإرضائها، يعوضونها عن كل دمعة وعن كل ليلٍ مظلم.
قصة أمينة ليست حكاية امرأة عراقية فقط، بل رواية أمة بأكملها، أمة من الكبرياء تسكن جسد امرأة واحدة.